Selasa, 24 Juli 2007

الآيات البينات
في عدم سماع الأموات

عند الحنفية السادات





تأليف

العلامة نعمان ابن المفسر الشهير محمود الآلوسي

(1252-1317)
حققه وقدم له وخرج أحاديثه وعلق عليه

محمد ناصر الدين الألباني



بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

الحمد لله، رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد النبي الامي الأمين، وعلى آله وصحبه الميامين، وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فهذه هي الطبعة الثالثة من كتاب "الآيات البينات" للشيخ نعمان الآلوسي،

رحمه الله تعالى، بتحقيقي وتخريجي، في ثوب جديد، زاهٍ مشيب، قام عليها الأخ الفاضل الأستاذ زهير الشاويش، جزاه الله خيراً، رغبة منا في توسيع دائرة نشره وتوزيعه في البلاد الإسلامية، بعدما تبين للعديد من أهل الفضل والعلم أهمية موضوعه، واحتياج الجماهير إلى الاطلاع عليه، لا سيما من كان منهم لا يزال يعيش في أوحال الجاهلية الأولى، من الاستغاثة بغير الله والاستعانة بالأنبياء والصالحين الأموات وغيرهم من عباد الله، متوهمين أنهم يسمعونهم حين ينادون، وأنهم على الاستجابة لهم قادرون، غير آبهين بما في القرآن الكريم والسنة الصحيحة من آيات بينات، ونصوص قاطعات، بأن الأموات لا يسمعون، وأنهم، لو فرض سماعهم، فإنهم لا يستجيبون، وصدق الله العظيم إذ يقول:}يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز{ ]الحج:73-74[.

وقال:}ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ

وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ{ ]فاطر:13-14[.

إلى غير ذلك مما شرحناه في مقدمة الكتاب شرحاً استفاد منه الكثير من المسلمين الطيبين، وهدوا بذلك إلى الصراط المستقيم، بعد أن كانوا في ضلال مبين، فله تعالى وحده الحمد والمنة على ما أنعم علينا وهدانا، وهدى بنا.}قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا

وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ

لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ{

]الأنعام:71[.وهو سبحانه، المسؤول أن يجعلنا والمحبين لنا فيه، والسالكين معنا على كتابه وسنة نبيه من الذين قال عنه في قرآنه:}وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً

إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ{ ]الأعراف:43[.

هذا، وقد أجريت بعض التعديلات الطفيفة على بعض تعليقات الكتاب، على ضوء

ما كنت أشرت إليه في المقدمة، مما استفدته من النسختين البغداديتين من نسخ الكتاب،

كما أضفت إليها تعليقات أخرى وفوائد جديدة، ولكم تمنيت أن ألحق بالكتاب نفسه تلك الزيادات التي أشرت إليها ثمةَ مما في النسختين المشار إليهما، ووعدت فيها باستدراكها في طبعة أخرى إن شاء الله تعالى، ولكنني ــ مع الأسف ــ لم أتمكن من ذلك، لا في الطبعة الثانية، ولا في هذه الثالثة. أما في الثانية فلأنها طبعت على طريقة التصوير (الأوفست)، فهي

طبق الأولى إلا في مواطن يسيرة أمكننا ـــ بصعوبة ـــ تعديلها، كما ألمحت إلى ذلك هناك.

أما في هذه الطبعة، الثالثة، فقدَّر الله أن أكون بعيداً عن مكتبتي وأصولي، بل وعن داري وأهلي؛ لأمور خارجة عن إرادتي، وقد شرحت ذلك في مقدمتي لكتاب "رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار"، للإمام العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني(1) صاحب "سبل السلام" فالله تعالى أرجو أن يمكنني من القيام بالاستدراك المشار إليه في طبعة آتية إن شاء الله تعالى.

ذلك. وبينا أنا أعدُّ الكتاب وأهيَّه لهذه الطبعة الثالثة أهدى إليَّ أحد الشباب المؤمنين الذين تعرفت عليها هنا في بيروت كتيبا صغيراً، من تأليف متعصب من متعصبة الحنفية الحاسدين الحاقدين من أهل الشمال، خصه بالرد على السلفيين الداعين إلى اتباع الكتاب والسنة، وترك التعصب للأئمة، مسمياً كتيبه هذا بـ "أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء رضي الله عنهم".

وهذا العنوان وحده ينبيك، أيها القارئ الكريم، عن مبلغ تقدير واضعه للحديث النبوي،

أما مضمونه فهو صد صريح عن اتباع الكتاب والسنة، ودعوة مكشوفة إلى الجمود على التقليد لإمام واحد من الأئمة وليس إلى اتباعهم والأخذ بما وافق السنة من أقوالهم، كما هي دعوتهم، التي كنت شرحتها في مقدمة كتابي "صفة صلاة النبي r" اعتماداً مني على أقوالهم وأقوال بعض من جاء بعدهم من أتباعهم. فأبى هذا الظالم لنفسه، والمخالف لأئمته، بلَه الكتاب والسنة، إلا إثارة العصبية المذهبية من جديد، تحت ستار دفع "سوء الظن بالأئمة

وتشويه سيرتهم العلمية والعملية، مع الترفع عليهم...".

وكذب ـــ والله ـــ هو ومن وراءه فليس هناك مسلم يسيء الظن بالأئمة، ومقدمتي المشار إليها أكبر دليل على ذلك(2)، ولكن أمثال هؤلاء المتعصبة لا يخشون الله ولا يستحيون من الناس، ولذلك فهو في الحقيقة يرد على أناس لا وجود لهم، إلا في مخه، فإنه يصفهم تارة (بالمتطاولين المتعالين المنتهكين لحرمات السلف رغم الإنتساب إليهم وإنما هو الشرود والمروق)، وتارة (بالمتفردون المشوشون) وأخرى بـ (أدعياء الدعوة) ونحو ذلك من الافتراءات والأكاذيب المعروفة، عنهم يتهمون بها الأبرياء، ليضل بها المقلدون الأغبياء، وهم }َكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا{ ]الفتح:26[. ولكن صدق المثل:(رمتني بدائها وانسلت).

وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل

ولو أن هذا الرجل كان مخلصاً في رده، غير متعصب لمذهبه،- ولا أقول: لمذهب إمامه -

لنقل من "المقدمة" المشار إليها كلامي الذي يراه خطأ ورد عليه، وقارع الحجة بالحجة.

وحين ذلك يتبين الحق لكل ذي عينين.

أما أن ينقل قولاً عن بعض الأئمة نحن نعتقد بها، من قبل أن يتمكن هو أن يسطر في العلم سطراً واحداً، ويوهم الناس أننا نخالفهم في ذلك، فهذا ليس شأن من يريد الحق بكتابته، وحسبك دليلاً هذا التعليق الذي سيأتي في الكتاب (ص38)، فإنك إذا قابلته بما أشرت إليه من النقول، يتبين لك جلياً أنها غير واردة علينا، بل نحن سبقناهُ إلى الأخذ بها، وغنانا الله عن أن نحتاج فيها إلى أحد من المقلدين المتعصبين العمي! ونقولاً أخرى لا علاقة لها بموضوع دعوتنا إطلاقاً لأننا بحمد الله إنما ندعو إلى اتباع الكتاب والسنة، مع احترام الأئمة، والاستفادة من علومهم، كما هو مصرح به في "المقدمة" وبعض ما ينقله إنما هي أقوال وشروط لم توضع من أئمة مجتهدين، وإنما من بعض أتباعهم المقلدين بإعترافهم، فهي لا تلزم أحداً منهم، أعني المقلدين لأن واجبهم إنما هو تقليد إمام مجتهد كما هو مصرح به في أصولهم، فكيف يُلزم بها، أو يصح أن تقام الحجة بمثلها على من يصرحون بوجوب اتباع الكتاب والسنة وإن خالف المذهب، بل إمام المذهب المجتهد؟!

وهنا نقطة هامة أرجو الإنتباه لها وهي: أن هذا المتعصب الهالك، لو كان يدعو من يفتري عليهم الأكاذيب، أن لا يخرجوا في اتباعهم عما اتفقت الأئمة ـــ جميعاً ـــ عليه من الأحكام، لكانت دعوته موضع تقدير واحترام، ذلك لأننا نحن الذين ندعو إلى هذا، ولكن بتوسيع

رحمة الله، واعتقاد أن العلم ليس محصوراً في أئمة أربعة، ولكنه هو إنما يدعو أن يظل كل مسلم في مذهبه الذي نشأ عليه، مهما كان دليل المذهب المخالف له قوياً لديه.

وقد يستغرب بعض القراء هذا، ولكن إذا اطلع على كلامه الصريح في ذلك فسيقول معي:

(إنا لله وإنا إليه راجعون)! قال (ص40):

(فإذا كان ـــ السبكي قد حصل له هذا التردد ـــ وهو بهذه المنزلة في العلم ـــ فهل يجوز لمن هو دونه أن يتمسك بظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه ويسرع إلى العمل بما صح من الحديث، مشوشاً على نفسه وعلى غيره من الناس، متظاهراً أنه يعمل بمقتضى قول إمام معتبر من أئمة المسلمين معتمدٍ عندهم، فلم ننكر عليه؟

أفلا يحق لنا أن نعتبر من واقع غيرنا فنثبت عند أقوال الإمام الذي يسر الله تعالى لنا

الإقتداء به منذ أول نشأتنا؟)!

هذا نص كلامه، وهو يذكرني بأحد الدكاترة من المتعصبين للمذهب الشافعي حيث كان يصرح بأنه يفخر أو يحمد الله، على أنه مقلد!(فاعتبروا يا أولي الألباب).

وظني أن هذا المقلد وذاك، على ما بينهما من الخلاف في الأصول والفروع، إلا في التقليد الأعمى، فهما يلتقيان في التمسك به والدعوة إليه، يجهلان أو يتجاهلان أن (المقلد) يساوي عند العلماء: الجاهل، ولذلك نصوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء! بل قال بعض أئمة الحنفية المتقدمين، وهو العلامة أبي جعفر الطحاوي:(لا يقلد إلا عصبي أو غبي)!

فما حيلتنا مع اناس ندعوهم إلى اتباع الكتاب والسنة لنجوا بذلك من العصبية المذهبية، والغباوة الحيوانية، فيأبون علينا إلا أن يستمروا على عصبيتهم وغباوتهم! وليس هذا فقط، بل ويدعونا والناس جميعاً إلى أن نقلدهم لنصير ضالين أغبياء مثلهم!! وهنا أتذكر أن من السنة أن يقول المعافى إذا رأى مبتلى:(الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً)! ومما لا شك فيه أن المبتلى في دينه، أخطر من المبتلى في بدنه!

واعلم أيها القارئ الكريم ان ما ألزمنا به المقلد من الجهل والغباوة لازم له، إلا إذا استجاب لقوله تعالى:}فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ

الْآخِرِ{ ]النساء:59[.

فإن فعل في كل خلاف بينه وبين مذهبي أو سلفي، فقد صنع مثل صنعنا وانضم إلينا،

وخالف كل ما بنى عليه "كتيبه"، وذلك ما نرجوه له ولكل متعصب هالك، وإن لم يقبل

وقال: الآية المذكورة، الخطاب فيها موجه إلى أهل العلم ولست منهم، فقد لزمه ما ألزمناه،

بل الزمه العلماء، من الجهل والغباوة (وعلى نفسها جنت براقش)!

لقد غرر صاحب ذلك الكتيب بكثير من قرائه، حين نقل تلك النقول عن العلماء، مؤيداً بها دعوته للتعصب المذهبي، مع أنها ليست حجة فيما ذهب إليه كما ذكرنا، فإنه تعامى عن نقول أخرى عنهم، كنا ذكرناها في "مقدمة صفة صلاة النبي r" منها ما نقله الإمام النووي عن أبي عمرو بن الصلاح قال:(فمن وجد من الشافعية حديثاً يخالف مذهبه، نظر إن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقاً، أو في ذلك الباب أو المسألة، كان له الاستقلال بالعمل به، وإن

لم تكمل وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفه عنه جواباً شافياً، فله العمل به، إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذراً له في ترك مذهب إمامه هنا، وهذا الذي قاله حسن متعين. والله أعلم).

فهذا الإمام ابن الصلاح، يتكلم عمن لم تكتمل آلات الاجتهاد فيه، أمثال جماهير العلماء

اليوم، فقد أجاز له العمل بالحديث المخالف لمذهبه، إن كان عمل به إمام مستقل غير الإمام

الشافعي!

فنسأل الآن ذلك المتعصب الجائر، لماذا لم يتعرض لهذه المسألة التي أجازها الإمام ابن الصلاح وأقره الإمام النووي عليها، وهي التي نسميها نحن: (الاتباع) والتي لا يشترط فيها

ما يهول به المتعصب الجائر في كتيبه، تضييقاً منه لدائرة الإهتداء بهدي النبي r، ونحن قد استشهدنا بها في منهجنا الذي وضعنا عليه كتابنا "صفة الصلاة"؟! أليس هذا من الأدلة الكثيرة على أنه هو الذي يضلل الناس ويصدق فيه (من حفر بئراً لأخيه وقع فيه)، كما صدق ذلك من قبل على شيخ له جائر!؟

بل لماذا لم يتعرض للجواب عن ما هو أخطر عنده من كلام ابن الصلاح والنووي رحمهما الله تعالى، وأقوى لنا في اتجاهنا السلفي؟ ذلكم هو قولي عقب كلام ابن الصلاح:

(قلت:وهناك صورة أخرى لم يتعرض لذكرها ابن الصلاح، وهي فيما إذا لم يجد من عمل بالحديث فماذا يصنع؟

أجاب عن هذا تقي الدين السبكي في رسالة:"معنى قول الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي" (ص103 ج3) فقال:

(والأولى عندي اتباع الحديث، وليفرض الإنسان نفسه بين يدي النبي r، وقد سمع ذلك منه أيسعه التأخر عن العمل به؟ لا والله ...وكل واحد مكلف حسب فهمه). وتمام هذا البحث وتحقيقه تجده عند الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين عن رب العالمين"...وغيره.

هذه الكلمة هي القاصمة لظهر المتعصب الجائر، فلا جرم أنه لم ينقلها، مع أنه نقل عن السبكي ما ليس له علاقة بهذه الصورة، ولا بالتي قبلها، ليوهم الناس ان الإمام السبكي

لا يقول بهذا الذي نقلته عنه، مما يشهد لما عليه السلفيون من اتباع الحديث ولو خالف

المذهب بل المذاهب! فبماذا يتهم الناس من صنع صنيع هذا المتعصب الجائر؟

فقد وضح للقارئ الكريم أن هؤلاء المقلدة من أهل الأهواء، لأنهم يتظاهرون بالإحتجاج بأقوال العلماء وتقليدهم، وهم في الواقع يأخذون من أقوالهم ما يؤيدون به أهواءهم، ويعرضون عن أقوال من يخالفها منهم، ولو أنهم كانوا كالسلفيين، يأخذون بقول من كان الدليل معه،

لما كان هناك مجال للطعن فيهم، ونسبتهم إلى كتمانهم للعلم، الذي لا يجدونه إلا في أقوال من

يقلدونهم بزعمهم.

وبعد، فإن مجال القول والرد على هذا المتعصب الجائر، وبيان ما في كتيبه من النقول الواهية، والآراء الكاسدة، والروايات الضعيفة والمتناقضات العجيبة، والأكاذيب المفضوحة، والاتهامات الجريئة، واسع حداً مما لا يناسب الخوض فيه هنا، خاصة في موضوع الاجتهاد والإتباع والتقليد، وقد أُلفَتْ في ذلك كتب كثيرة قديماً وحديثاً، فمن شاء أن يعرف الحق مما اختلف فيه الناس فعليه بمطالعتها، والإستفادة من العلم الوارد فيها، والاهتداء بنورها، مثل كتاب "الإعلام" المشار إليه آنفاً وإلا }وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ{ ]النور:40[.

وقبل أن أختم هذه الكلمة، أريد أن أكشف القناع عن طبيعة بعض هؤلاء المتعصبة،

ألا وهي أنك تراهم من أجرأ الناس في محاربة السنة، إذا كانت عليهم، وفي هذه الحالة يتسترون وراء ادعاء التمسك بالمذهب، لأن في التمسك بالسنة طعناً في الأئمة وتجهيلاً! وهم كاذبون في ذلك. وهذا ما صنعه هذا المتعصب الجائر.

وأما كان إذا كان المذهب عليهم، وخلاف أوهامهم وتقاليدهم، وكانت هناك أحاديث

هي حجة لهم ولو على التوهم، ففي هذا الحال يتناسون حميتهم للتمسك بالمذهب،

ويتجاهلون كل ما قالوه من الطعن في أهل السنة والعاملين بها، وركنوا هم أنفسهم إلى العمل بالحديث، ولو خالف المذهب! وهذا ما فعله ذلك الرجل الحنفي الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله في آخر الفصل الثاني من هذا الكتاب، وأنه كان يقول ويشيع: ان مذهب الحنفية سماع الموتى لقول إمامنا الأعظم: إذا صح الحديث فهو مذهبي! ورد عليه المؤلف وأيدناه،

بما تراه هناك (ص38).

وظني أن ذاك المتعصب الجائر وشيخه الأجأر، وسيده الآخر الصوفي، ومولاه النبيل

الاعظمي زعم أنه قال له: أنا أوافق على ما قرأته عليَّ حرفياً!(3) سيكون موقفهم بالنسبة لهذه الرسالة، وما فيها من أدلة الكتاب والسنة، وأقوال أئمتهم الحنفية في عدم سماع الموتى، عين موقف ذلك الرجل الحنفي، الذي وضع قول الإمام إذا صح الحديث فهو مذهبي في غير موضعه، وسيردون كل تلك الأقوال، بله الكتاب والسنة بدون أي خجل! إتباعاً لأهوائهم!

نعرف هذا عنهم وعن أمثالهم الشيء الكثير، فهو الحق يقال، في أمر مريج، لا الكتاب والسنة يتبعون، ولا أئمتهم يقلدون، ومن كان في شك من هذا فإني أقوال لهم:}فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ{ ]الانبياء:63[ عن عنوان هذا الكتاب فقط! وحينئذ لترون العجب العجاب، وينكشف الغطاء، ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود لكل ذي بصيرة ودين، }فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ{ ]الرعد:17[.

وختاماً اعتذر إلى القراء الكرام، فقد طال بنا الكلام على كتيب ذلك المتعصب المقلد

الجائر، أكثر مما كنت اتصور، فإن الكلام ذو شجون كما يقولون، والمناسبة قد وجدت؛ للكشف عن جهل بعض الناس وظلمهم وبغيهم، واتباعهم لأخوانهم،}إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ

وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى{ ]النجم:23[.

أسأل الله تعالى أن يبصرنا بعيوننا، ويهدي قلوبنا، ويرزقنا التقوى، ويجعلنا من}الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ{

]الزمر:18[، وأن لا يجعلنا كغيرنا من الضالين، الذين يصدق فيهم قول رب العالمين}فَإِنَّكَ

لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ

إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ{ ]الروم:52-53[.

وآخر دعوانا }أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{.

بيروت/ طلوع شمس الأربعاء يوم عرفة سنة

1401هـ الموافق/ 10/1981م

وكتب

محمد ناصر الدين الألباني

قوبل بالأصل وهو في يدي وبخطي ليلة النحر بعد صلاة العشاء من السنة المذكورة.









































بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد، فإن في سفرتي الأخيرة إلى (طابة)(4)، آخر محرم سنة (1398) ترددت مدة إقامتي فيها على مكتبة الجامعة الإسلامية ـــ على عادتي كلما سافرت إليها ـــ لدراسة

ما يتجمع فيها من نفائس المصورات، عن نوادر المخطوطات الحديثة وغيرها، المحفوظة في مختلف مكتبات بلاد الدنيا، وذلك بهمة وجهود فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد، نائب رئيس الجامعة حالياً، ومن قبله فضيلة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرئيس العام الآن لإدارات البحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، جزاهما الله تعالى عن العلم والإسلام خيراً، ووفقهما وغيرهما من المسؤولين لمتابعة السير في هذا المشروع الهام العظيم، الذي يسهل العسير ويقرب البعيد، إلى العلماء والباحثين، والطلاب المجتهدين؛ أن يحققوا وينشروا من آثار سلفنا، ومؤلفات علمائنا ما لم ينشر بعد، إنه سميع مجيب.

هذا وقد استفدت من مصورات المكتبة المذكورة، فوائد جد كثيرة، فاطلعت بواسطتها على مصورات وبعض الأفلام لمخطوطات طالما كنت حريصاً على الاطلاع عليها، ودراستها، والتقاط فوائدها ودررها، وكان من ذلك هذه الرسالة القيمة التي أقدم بين يديها هذه الكلمة،

ألا وهي:"الآيات البينات، في عدم سماع الأموات، عند الحنفية السادات".

تأليف العلامة السيد نعمان ابن المفسر الشهير الجليل السيد محمود الآلوسي.

والوقع أنني لم أكن قد سمعت بهذه الرسالة من قبل، فلما وقعت عيني على عنوانها في بعض فهارس المكتبة، أخذ بمجامع قلبي، وظننت أنها رسالة هامة في موضوعها، فلما طلبتها ـــ مصورة ـــ لدراستها، وأخذ فكرة سريعة جامعة عنها، بدأت أُقلب صفحاتها، وأتأمل في سطورها وبحوثها، تأكدت مما كان بدا لي من أهميتها! فطلبت أن يصوروا لي نسخة عنها، لأتفرغ لدراستها دراسة دقيقة إذا رجعت إلى بلدي، ففعلوا جزاهم الله خيراً.

فما كدت أركب الطائرة عائداً إلى دمشق، حتى اهتبلتها فرصة، فاستخرجت الرسالة، وباشرت قراءتها سطراً سطراً، بروية وإمعان، مشيراً إلى المواطن التي تحتاج إلى تحقيق

أو تعليق، أو تخريج، فازددت تأكداً بأهميتها وإعجاباً بها، وامتلأت شعور اً بضرورة نشرها.

فلما اطمأننت في داري، واستقر فيها قراري، واسترحت قليلاً من وعثاء أسفاري، أقبلت عليها محققاً، معلقاً، مخرجاً، بقدر يسير من وقتي الذي تساعدني عليه صحتي، ومشاريعي الاخرى التي لا بد من الاستمرار فيها، والتي منها "صحيح الترغيب والترهيب" و"ضعيف الترغيب والترهيب" وتحقيق "الأحاديث المختارة" للضياء المقدسي، وغيرها. ولما تعمقت فيها قليلاً، تبين لي أنها مأخوذة عن نسخة سيئة جداً، وأنها غير مقابلة بأصل المؤلف رحمه الله ولا مصححة، وقد علمت من بعض الفهارس أن هناك في مكتبة الأوقاف في بغداد نسخاً عدة، وإحداها بقلم المؤلف نفسه، فكتبت إلى أحد إخواننا هناك ليرسل

إلينا صورة عنها، فلما تأَخرت عني، مضيت في تحقيق المصورة التي عندي، معتمداً في ذلك

على المصادر التي نقل المؤلف عنها، إلا ما ندَّ عني منها، وبذلك تمكنت من تصحيح أكثر العبارات التي أصابها تحريف أو تصحيف أو سقط، بسبب خطأ الكاتب، وعدم المقابلة بالأصل. ولم أر فائدة كبرى في الإشارة إلى المواطن التي صححتها لكثرتها، إلا في بعض الأحيان، ولكني أشرت إلى الألفاظ والجمل التي كانت سقطت من الكاتب ثم استدركتها، بوضعها بين معكوفتين هكذا:] [ ، ونظرة سريعة في هذه المستدركات من القارئ اللبيب تدله على سوء النسخة التي قمت بتحقيقها، آملاً أن أكون وفقت إلى إخراجها وفق نسخة المؤلف رحمه الله تعالى أو قريباً منها، وفي طبعة لاحقة إن شاء الله نكون قد وقفنا على نسخته، وصححناها عليها، ولكل أجل كتاب، والله تعالى هو ولي التوفيق، والهادي إلى الصواب.

وقد أضفت إلى ذلك أني خرجت أحاديث الكتاب وآثاره، مبيناً صحيحها، وضعيفها، وموضوعها، كما هي عادتي في كل ما أُحققه من الكتب والرسائل، وعلقت عليه بعض التعليقات المفيدة، وبخاصة على المسائل والأقوال التي تعرض المؤلف لذكرها ولم يبد رأيه فيها. وترجمت للمؤلفين الذين نقل عنهم مباشرة أو بواسطة ترجمة موجزة، وضبطت أنسابهم، وجعلت لبعض مسائله عناوين جانبيه بين معكوفتين، تيسيراً للمراجعة، وكذلك وضعت له فهارس أربعة إتماماً للفائدة:

أ ـــ مصادر الكتاب وتعليقاته.

ب ـــ مباحث الكتاب ومسائله.

ج ـــ الأحاديث والآثار.

د ـــ الأعلام والرواة المترجمين.

وغير ذلك من الفوائد التي سيقف عليها القارئ إن شاء الله تعالى.

هذا، وبينما أنا ماضٍ في طبع الكتاب، حتى إذا لم يبق منه إلا الملزمة السادسة، وهي قد وضعت على الآلة الطابعة، ألقي إلي ظرف كبير، فيه نسختان مصورتان منه، أرسلهما الأخ البغدادي الذي سبقت الإشارة إليه، جزاه الله خيراً، فسارعت إلى دراستهما، ومقابلة المصورة الأولى والمطبوع عنها بهما، فاستفدت منهما فوائد كثيرة، وزيادات غير قليلة، أضفت ما أمكنني منها إلى المطبوعة، ونبهت على ذلك في حدود الاستطاعة، كالزيادة التي في الصفحة (97ـــ 98) وغيرها.

وقد كنت ــ قبل ورود النسختين ــ صححت بعض الكلمات خلافاً للأصل ظناً مني أنها خطأ من الناسخ، ولدى المقابلة تبيَّنت أنها ليست منه، لأن النسختين مطابقتان له، فتركت ذلك على ما صححت؛ لعدم تيسر تصحيحه وفقاً للنسخ الثلاث مع التعليق بما يلزم عليه، ومن الأمثلة على ذلك ما في (ص16 سطر4)(5):(فإنهما تفيدان تحقيق عدم سماعهم؛ فإنه...) فهو في الأصول الثلاثة هكذا:(فإنه مفيدان تحقيق عدم سماعهم من أنه...)! وكقوله (ص19سطر12)(6):(والمذاهب الأخرى)، فهو في الأصول:(والمذاهب الآخرين)! وغير ذلك، وهو غير قليل.

وأغرب من ذلك كله وأعجب، أن آية أخذ الميثاق الآتية (ص86)(7)وقعت في الأصول الثلاثة هكذا:} قالوا:بلى شهدنا على أنفسنا أن تقولوا...{ والآية هكذا بزيادة (على أنفسنا)! والظاهر أنها سبق قلم من المؤلف، فقد رأيته في إحدى نسختي بغداد بخطه رحمه الله، ثم تتابع عليها النساخ، دون أن ينتبهوا!

ومع ذلك فإن المصورتين البغداديتين أصلهما أقدم وأصح وأجمل خطاً من مصورتنا (الأصل)، كما يتبين ذلك جلياً للقراء من النماذج المصورة المعروضة في آخر هذه المقدمة، ونص خاتمة الأولى منهما:

(وقد كملت هذه الرسالة تأليفاً بتوفيقه عز وجل ـــ في يومين ـــ لسبع من شوال المكرم لسنة خمس وثلاثمائة وألف، على يد أفقر العباد واحوجهم إلى الله تعالى محمد صالح نجل المرحوم ملا حيدر، عفى (!) الله تعالى عنه وعن والديه والمسلمين آمين. تمت).

وتحت ذلك ما نصه:

(نجزت هذه الرسالة الشريفة كتابة على خط مؤلفها السيد نعمان أفندي المفضال في السادس والعشرين من شوال سنة 1305.

اللهم صلي على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد).

ونصها في الأخرى:

(وقد كملت هذه الرسالة تأليفاً بتوفيقه عز وجل ـــ في يومين ـــ لسبع من شوال المكرم لسنة

خمس وثلاثمائة وألف. وكان الفراغ من تحرير هذه النسخة يوم الأربعاء لسبع مضين من ربيع الثاني لسنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف، على يد الفقير إليه عز شأنه علي بن الحسن

الابرولي عفي عنهم أجمعين آمين).

وفي كل من النسخ الثلاث زيادات ليست في الأخرى، وسبب ذلك يعود إلى أن المؤلف رحمه الله ألَّف رسالته في مدة وجيزة وهي (يومان) كما تقدم آنفاً، فكان كلما بدا له رأي،

أو وقف على نص، ألحقه بالرسالة تارة بخطه، وتارة بخط ناسخها، وهذا أمر ظاهر في كل من المصورتين البغداديتين، ولقد كنت أود أن أضم كل هذه الزيادات في مطبوعتنا هذه مع التنبيه على ذلك في التعليق، وعزو كل زيادة إلى أصلها، ولكن لم يعد ذلك بالإمكان بعد أن انتهى طبع أكثر ملازمها، إلا شيئاً قليلاً، فقد أمكنني استدراكه، وهذه المقدمة على الآلة الطابعة، فلعلني أتمكن من استدراك ذلك كله استدراكاً تاماً في طبعة أخرى إن شاء الله تعالى(8).

واعلم أن هذه الرسالة وإن كان موضوعها في بيان حكم فقهي كما سترى، فذلك لا يعني

ــ في اعتقادي ــ أنه لا علاقة لها بما هو أسمى من ذلك وأعلى، ألا وهو التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده ودعائه تعالى دون سواه، ومن المعلوم أن الاعتقاد بأن الموتى يسمعون، هو السبب الأقوى لوقوع كثير من المسلمين اليوم في الشرك الأكبر، ألا وهو دعاء الأولياء والصالحين وعبادتهم من دون الله عز وجل، جهلاً أو عناداً، ولا ينحصر ذلك في الجهال منهم، بل يشاركهم في ذلك كثير ممن ينتمي إلى العلم، بل وقد يظن الجماهير أنه من كبار العلماء! فإنهم يبررون لهم ذلك خطابة وكتابة بمختلف التبريرات التي ما أنزل الله بها من

سلطان، والأحزاب الإسلامية كلها مع الأسف لا تعير لذلك اهتماماً يذكر، لأنه يؤدي بزعم

بعضهم إلى الاختلاف والتفرقة ! مع أنهم يعلمون أن الأنبياء إنما كان أول دعوتهم:}أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ{ ]النحل:36[، وخيرهم من يسكت عن قيام غيره بهذا الواجب. ومن الظاهر أن ذلك الشيخ الذي ألف العلامة الآلوسي هذه الرسالة في الرد عليه كان منهم، ولذلك ثارت ثائرته حينما صرح المؤلف رحمه الله في درسه بأن الموتى لا يسمعون، لأنه يعلم أن ذلك ينافي ما عليه أولئك الجهال من المناداة للأولياء والصالحين، ودعائهم من دون الله

عز وجل. وفي ظني أن المؤلف رحمه الله ما ألف هذه الرسالة إلا تمهيداً للقضاء على هذه الضلالة الكبرى، ألا وهي الاستغاثة بغير الله تعالى، على اعتبار أن السبب الأقوى الموجب لها عند من ضل من المسلمين، إنما هو الاعتقاد بأن الموتى يسمعون، فإذا تبين أن الصواب أن الموتى لا يسمعون، لم يبق حينئذ معنى لدعاء الموتى من دون الله تعالى.

فإني لا أكاد أتصور ــ ولا غيري يتصور ــ مسلماً يعتقد أن الميت لا يسمع دعاء داعيه، ثم هو مع ذلك يدعوه ومن دون الله يناديه، إلا أن يكون قد تمكنت منه عقيدة باطلة أخرى، هي أضل من هذه وأخزى، كاعتقاد بعضهم في الأولياء، أنهم قبل موتهم كانوا عاجزين، وبالأسباب الكونية مقيدين، فإذا ماتوا انطلقوا وتفلتوا من تلك الأسباب، وصاروا قادرين على كل شيء كرب الأرباب! ولا يستغربن أحد هذا ممن عافاهم الله تعالى من الشرك على اختلاف أنواعه، فإن في المسلمين اليوم من يصرح بأن في الكون متصرفين من الأولياء دون الله تعالى ممن يُسمونهم هنا في الشام بـ (المدَّرَّكين) وبـ (الأقطاب) وغيرهم، وفيهم من يقول:(نظرة من الشيخ تقلب الشقي سعيداً)! ونحوه من الشركيات.

قال العلامة السيد رشيد رضا في "تفسيره" (11/391) تحت قوله تعالى:}قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ{ ]يونس:49[.

(أي لكن ما شاء الله من ذلك كان متى شاء، لا شأن لي فيه؛ لأنه خاص بالربوبية دون الرسالة التي وظيفتها التبليغ لا التكوين...

وقد بلغ من جهل الخرافيين من المسلمين بتوحيد الله أن مثل هذه النصوص من آيات التوحيد لم تصد الجاهلين به منهم عن دعوى قدرة الأنبياء والصالحين حتى الميتين منهم على كل شيء من التصرف في نفعهم وضرهم مما يجعله الله تعالى من الكسب المقدور لهم بمقتضى سننه في الأسباب، بل يعتقدون أن منهم من يتصرفون في الكون كله، كالذين يسمونهم بالأقطاب الأربعة. وإن بعض كبار علماء الأزهر في هذا العصر يكتب هذا حتى في مجلة الأزهر الرسمية (نور الإسلام)! فيفتي بجواز دعاء غير الله من الموتى والاستغاثة بهم في كل

ما يعجزون عنه من جلب نفع، ودفع ضر.

وألف بعضهم كتاباً في إثبات ذلك، وكون الميتين من الصالحين ينفعون ويضرون بأنفسهم، ويخرجون من قبورهم، فيقضون حوائج من يدعونهم ويستغيثون بهم! قال في "فتح البيان"(4/225-226) بعد نقله القول الأول في الاستثناء عن أئمة المفسرين وترجيحه ما نصه:

"وفي هذا أعظم وازع، وأبلغ زاجر، لمن صار ديدنه وهِجيَّراه المناداة لرسول الله r،

أو الاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه، وكذلك من صار

يطلب من الرسول ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه، فإن هذا مقام رب العالمين، الذي

خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين، ورزقهم وأحياهم ويميتهم، فكيف يطلب من نبي من الأنبياء، أو ملَك من الملائكة، أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه؟ ويترك الطلب لرب الأرباب، القادر على كل شيء، الخالق الرازق المعطي المانع؟! وحسبك بما في الآية من موعظة؛ فإن سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده:}لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً{ فكيف يَملكه لغيره؟! وكيف يملكه غيرهً ــ ممن رتبته دون رتبته، ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته ــ لنفسه، فضلاً عن أن يملكه لغيره؟!

فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون

منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل! كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك، ولا ينتبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى (لا إله إلا الله)، ومدلول }قُلْ هُوَ اللَّهُ

أَحَدٌ{ ]الاخلاص:1[؟! وأعجب من هذا اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء

ولا ينكرون عليهم، ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو أشد منها، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق، المحيي المميت، الضار النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله، ومُقربين لهم إليه، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع، وينادونهم تارة على الاستقلال، وتارة مع ذي الجلال، وكفاك من شر سماعه، والله ناصر دينه، ومطهر شريعته من أوضار الشرك، وأدناس الكفر، ولقد توسل الشيطان

ــ أخزاه الله ــ بهذه الذريعة إلى ما تقر به عينه، وينثلج به صدره؛ من كفر كثير من هذه الأمة المباركة }وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً{ ]الكهف:104[، إنا لله وإنا إليه راجعون").

وقال السيد رشيد أيضاً تحت قوله تعالى:}...دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ{ ]يونس:22[:

(وفي هذه الآية وأمثالها بيان صريح لكون المشركين كانوا لا يدعون في أوقات الشدائد وتقطع الأسباب بهم إلا الله ربهم، ولكن من لا يحصى عددهم من مسلمي هذه الزمان بزعمهم لا يدعون عند أشد الضيق إلا معبوديهم من الميتين كالبدوي والرفاعي والدسوقي والجيلاني والمتبولي وأبي سريع وغيرهم ممن لا يحصى عددهم، وتجد من حملة العمائم الأزهريين وغيرهم ولا سيما سدنة المشاهد المعبودة الذين يتمتعون بأوقافها ونذورها من يغريهم بشركهم، ويتأوله بتسميته بغير اسمه في اللغة العربية كالتوسل وغيره.

وقد سمعت من كثيرين من الناس في مصر وسورية حكاية يتناقلونها، ربما تكررت في القطرين لتشابه أهلهما وأكثر مسلمي هذا العصر في خرافاتهم، وملخصها:أن جماعة ركبوا البحر فهاج بهم حتى أشرفوا على الغرق، فصاروا يستغيثون معتقديهم، فبعضهم يقول:يا سيد يا بدوي! وبعضهم يصيح:يا رفاعي! وآخر يهتف:يا عبد القادر يا جيلاني!... الخ، وكان فيهم رجل موحد ضاق بهم ذرعاً فقال:يا رب أغرق أغرق، ما بقي أحد يعرفك). (11/338-339).

ثم ذكر في معنى الآية نحو ذلك عن الإمام الآلوسي والد المؤلف في "روح المعاني"، ثم قال الآلوسي:

(وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه، بل تخصيص العبادة به تعالى أيضاً؛ لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين. وأياً ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير، وخطب جسيم، في بر أو بحر، دعوا من لا يضر ولا ينفع، ولا يرى ولا يسمع، فمنعم

من يدعو الخضر وإلياس، ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس، ومنهم من يستغيث بأحد

الأئمة، ومنهم من يتضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة، ولا ترى أحداً فيهم يخص مولاه، بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمر له ببال؛ أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال، فبالله عليك قل لي:أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلا، وأي الداعِيَيْن أقوم قيلا؟ وإلى الله المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة، وتلاطمت أمواج الضلالة، وخُرقت سفينة الشريعة، واتُّخذت الاستغاثة بغير الله للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف).

قلت: يشير العلامة الآلوسي رحمه الله إلى ما يلقاه الدعاة المصلحون في كل زمان ومكان من الشدة والمعارضة لدعوتهم الحق، بسبب فُشو الشرك والبدع في الناس من عامتهم، وشيوخ البدع من علمائهم، والمنافقين من حكامهم،}وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ{ ]يوسف:21[.

هذا، وليس غرضي الآن أن أشبع الكلام في توحيد الربوبية والألوهية وما ينافيهما من الشرك والوثنية، فذلك أمر لا تتسع له هذه المقدمة، لا سيما وقد قام بذلك خير القيام، أئمة التوحيد وشيوخ الإسلام، كالإمام ابن تيمية، وابن قيم الجوزية، ومحمد بن عبد الوهاب، والصنعاني، والشوكاني وغيرهم من أولي الألباب، وإنما الغرض بيان ارتباط هذه المسألة "سماع الموتى" بنوع من أنواع الشرك، وأن القضاء عليه يكون بتحقيق أن الموتى لا يسمعون؛

فإني أعلم علم اليقين أن في المستغيثين بالأولياء والصالحين من لم يقم في نفوسهم ما تقدم بيانه

من الضلال الأكبر، ولكنهم لما كانوا يعتقدون أنهم يسعون كالأحياء، وكان من المسلَّم لديهم، مناداتهم والاستغاثة بهم في حياتهم، استجازوا ذلك بهم بعد موتهم! وقد رد الأئمة عليهم ما هو معروف لدى علماء المسلمين من أن الاستغاثة بهم في حياتهم ليست على اطلاقها وشمولها، وإنما هي بما يدخل تحت قدرتهم التي مكنهم الله تعالى منها، وليس من ذلك السعادة، والرزق والشفاء، وهداية القلوب، وغفران الذنوب، ونحوه مما هو متعلق بربوبيته سبحانه وتعالى، فطلب ذلك من الأولياء في حياتهم شرك وضلال أكبر، مخل بتوحيد الربوبية بَلَهَ الألوهية كما هو ظاهر، فكيف بذلك بعد موتهم، لا شك أنه أدهى وأمر.

وإني لأشعر ــ وقد بلغت في تسلسل هذا البحث العلمي إلى هذه النقطة الهامة ــ أنه لم يبق عند المستغيثين بغير رب العالمين شبهة تذكر إلا أن يقولوا:

سلمنا بكل ما ذكرتهم، ولكن هل من مانع يمنع أن نطلب منهم ما كان بمقدورهم في الحياة الدنيا، كالدعاء مثلاً، فبدل أن نقول مثلاً:يا رسول الله أغثنا، أو اشفع لنا. نقول: ادع الله لنا أن يغيثنا، أو أن يشفعك فينا. ولا نقول:يا رسول الله اغفر لنا ذنوبنا، وإنما نقول:استغفر لنا ذنوبنا. بل إن هذا بعينه هو قصدنا نحن المستغيثين به r أو بغيره من الأولياء والصالحين والطلب منهم وإن أسأنا التعبير! فقد جاء في الحديث:p.. تعرض علي أعمالكم؛ فإن رأيت خيراً حمدت الله، وإن رأيت شراً استغفرت لكم i *!

وجواباً عليه أقول:

إن سلمنا بأن ذلك هو القصد، فالطلب من أصله خطأ وضلال لا يجوز، بل يجب الامتناع

منه فوراً، وبيانه من وجهين:

الأول: أنه ينافي الإخلاص لله تعالى في دعائه وعبادته وحده، وفي ذلك آيات كثيرة صريحة

في النهي عن دعاء غير الله تعالى من الأولياء والصالحين كما سيأتي، وقد مضى بعضها، ومنها قوله تعالى:}قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ{ ]سـبأ:22-23[.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (1/179-181) بعد ذكر هذه الآية وغيرها:

(ومثل هذا في القرآن كثير:ينهى أن يُدعى غيرُ الله، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم؛

فإن هذا شرك، أو ذريعة إلى الشرك، بخلاف ما يطلب من أحدهم في حياته من الدعاء والشفاعة؛ فإنه لا يفضي إلى ذلك؛ فإن أحداً من الأنبياء والصالحين لم يعبد في حياته وبحضرته، فإنه ينهى من يفعل ذلك بخلاف دعائهم بعد موتهم فإن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم، وكذلك دعاؤهم في مغيبهم هو ذريعة إلى الشرك.

فمن رأى نبياً أو ملكاً من الملائكة وقال له:"ادعُ لي" لم يُفضِ ذلك إلى الشرك به بخلاف من دعاه في مغيبه، فإن ذلك يفضي إلى الشرك به كما قد وقع؛ فإن الغائب والميت لا ينهى من يشرك، بل إذا تعلقت القلوب بدعائه وشفاعته افضى ذلك إلى الشرك به، فَدُعي، وقُصد مكانُ قبره أو تمثاله أو غير ذلك، كما وقع فيه المشركون ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين.

ومعلوم أن الملائكة تدعو للمؤمنين وتستغفر لهم كما قال تعالى:}الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ

حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً

وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ{ ]غافر:7[.

فالملائكة يستغفرون للمؤمنين من غير أن يسألهم أحد، وكذلك ما روي أن النبي r أو غيره من الأنبياء والصالحين يدعو ويشفع للأخيار من أمته هو من هذا الجنس، هم يفعلون

ما أذن الله لهم فيه بدون سؤال أحد.

وإذا لم يُشرع دعاءُ الملائكة لم يشرع دعاء من مات من الأنبياء والصالحين، ولا أن نطلب منهم الدعاء والشفاعة، وإن كانوا يدعون ويشفعون؛ لوجهين:

أحدهما: أن ما أمرهم الله به من ذلك هم يفعلونه وإن لم يطلب منهم، وما لم يؤمروا به

لا يفعلونه ولو طلب منهم، فلا فائدة في الطلب منهم.

الثاني: أن دعاءهم وطلب الشفاعة منهم في هذه الحال يُفضي إلى الشرك بهم، ففيه هذه المفسدة، فلو قدر أن فيه مصلحة لكانت هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه؛ بخلاف الطلب منهم في حياتهم وحضورهم، فإنه لا مفسدة فيه، فإنهم ينهون عن الشرك بهم. بل فيه منفعة، وهو أنهم يثابون ويؤجرون على ما يفعلونه حينئذ من نفع الخلق كلهم؛ فإنهم في دار العمل والتكليف، وشفاعتهم في الآخرة فيها إظهار كرامة الله لهم يوم القيامة).

وقال في موقع آخر (1/330-331):

(وكذلك الأنبياء والصالحون، وإن كانوا أحياء في قبورهم، وإن قُدَّر أنهم يدعون للأحياء، وإن وردت به آثار، فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك، ولم يفعل ذلك أحد من السلف، لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم وعبادتهم من دون الله؛ بخلاف الطلب من أحدهم في حياته؛ فإنه لا يفضي إلى الشرك؛ ولأن ما تفعله الملائكة ويفعله الأنبياء والصالحون هو بالأمر الكوني،

فلا يؤثر فيه سؤال السائلين؛ بخلاف سؤال أحدهم في حياته؛ فإنه يشرع إجابة السائل، وبعد

الموت انقطع التكليف عنهم).

والخلاصة: أن طلب الدعاء والشفاعة ونحو ذلك من الأنبياء والصالحين بعد موتهم

لا يجوز؛ لأنه شرك، أو ذريعة إلى الشرك، وهذا هو الوجه الأول من الوجهين الدالين على ذلك.

والوجه الآخر: أن ذلك يعني عند الطالبين أن الأنبياء والصالحين يسمعون طلبتهم، وإلا كان دعاؤهم ومناداتهم بذلك سخفاً جلياً وضلالاً بيناً، وهذا ما يترفع عنه العاقل، بله المؤمن، لأنه باطل بداهة وفطرة، وبذلك احتج الله على المشركين في مواطن كثيرة من القرآن، فقال تعالى في ]الأعراف:194-195[:}إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا{؟! ولذلك كانت حجة إبراهيم على أبيه وقومه:}إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً{ ]مريم:42[ وقال في ]الشعراء:70-74[:}إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ{ فقد اعترفوا بهذه الحجة القاطعة وخضعوا لها في قلوبهم، ولكنهم عاندوا وعدلوا عنها إلى قولهم:}بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ{.

إذا عرفت هذا، فتنبه أيها المسلم المبتلى بدعاء الأولياء والصالحين من دون الله تعالى، هل أنت تعتقد أنهم حين تناديهم لا يسمعونك؟ إذن فأنت مع مخالفتك للعقل والفطرة السليمة مثل أولئك المشركين من قوم إبراهيم وغيرهم ولا فرق، فلا ينفعك والحالة هذه ما تدعيه من إسلام وإيمان، لأن الله تعالى يقول في القرآن:}لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ{ ]الزمر:65[ وإن كنت تزعم أنهم يسمعونك، ولذلك تناديهم وتستغيث بهم وتطلب منهم، فهي ضلالة أخرى فقت بها المشركين! وإني لأعيذك بالله أن تكون منهم في شيء.

فاعلم أخي المسلم! أن كل ما أعطاه الله لبشر ــ وفيهم الأنبياء والأولياءــ من قدرات وصفات، أن كل ذلك يذهب بالموت، كالسمع والبصر، والبطش، والمشي، ونحو ذلك،

فما يبقى منها شيء كما هو مشاهد، اللهم إلا الروح باتفاق المسلمين، وأجساد الأنبياء

كما في الحديث الصحيح، فمن زعم أن الموتى يسمعون، فهو كالذي يزعم أنهم يبصرون ويبطشون ويتصرفون! فكل هذا ــ مع كونه خلاف المشاهدــ إنما هو تحدث عما وراء العقل والمادة، وذلك مما لا يجوز شرعاً، لأنه من الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى، وإذا كان الأمر كذلك ــ وهو كذلك يقيناً لا شك فيه ــ فلا يجوز نسبة شيء مما ذكر إلى الموتى جميعاً إلا بنص من الشارع الحكيم، فهل جاء نص يثبت للموتى صفة السمع أي أن من طبيعة الميت أن يسمع الكلام كما كان قبل موته، وأن ذلك صفة له كما كانت له قبل ذلك، أم الأمر على النقيض من ذلك، كما شرحه المؤلف رحمه الله تعالى وبسط القول فيه معتمداً على أقوال المذاهب والأئمة؟

هذا ما أردت تحقيقه وتأييده بما وقفت عليه من الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة،

راجياً ممن وقف عليه أن يصيخ بسمعه، ويصغي بقلبه، ويتبع آيات ربه القائل في كتابه:}إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ{ ]النمل:80-81[.
تحقيق أن الموتى لا يسمعون

هذا واعلم أن كون الموتى يسمعون أو لا يسمعون إنما هو أمر غيبي من أمور البرزخ التي

لا يعلمها إلا الله عز وجل فلا يجوز الخوض فيه بالأقيسة والآراء وإنما يوقف فيه مع النص إثباتا ونفيا وسترى المؤلف رحمه الله تعالى ذكر في الفصل الأول كلام الحنفية في أنهم

لا يسمعون وفي الفصل الثاني نقل عن غيرهم مثله وحكى عن غير هؤلاء أنهم يسمعون وليس يهمني أن هؤلاء قلة وأولئك الكثرة فالحق لا يعرف بالكثرة ولا بالقلة وإنما بدليله الثابت في الكتاب والسنة مع التفقه فيهما وهذا ما أنا بصدده إن شاء الله تعالى فأقول:
استدل الأولون بقوله تعالى:}وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ{ ]فاطر:22[ وقوله:}إِنَّكَ

لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِين{ ]النمل:80 والروم 52[ وأجاب الآخرون بأن الآيتين مجاز وأنه ليس المقصود بـ (الموتى) وبـ (من في القبور) الموتى حقيقة في قبورهم وإنما المراد بهم الكفار الأحياء شبهوا بالموتى (والمعنى من هم في حال الموتى أو في حال من سكن القبر) كما قال الحافظ ابن حجر على ما يأتي في الرسالة (ص72).

فأقول: لا شك عند كل من تدبر الآيتين وسياقهما أن المعنى هو ما ذكره الحافظ رحمه الله

تعالى (9) وعلى ذلك جرى علماء التفسير لا خلاف بينهم في ذلك فيما علمت ولكن ذلك

لا يمنع الاستدلال بهما على ما سبق لأن الموتى لما كانوا لا يسمعون حقيقة وكان ذلك معروفا

عند المخاطبين شبه الله تعالى بهم الكفار الأحياء في عدم السماع فدل هذا التشبيه على أن المشبه بهم ـــ وهم الموتى في قبورهم ـــ لا يسمعون كما يدل مثلا تشبيه زيد في الشجاعة بالأسد على أن الأسد شجاع بل هو في ذلك أقوى من زيد ولذلك شبه به وإن كان الكلام

لم يسق للتحدث عن شجاعة الأسد نفسه وإنما عن زيد وكذلك الآيتان السابقتان وإن كانتا تحدثتا عن الكفار الأحياء وشبهوا بموتى القبور فذلك لا ينفي أن موتى القبور لا يسمعون

بل إن كل عربي سليم السليقة لا يفهم من تشبيه موتى الأحياء بهؤلاء إلا أن هؤلاء أقوى في عدم السماع منهم كما في المثال السابق وإذا الأمر كذلك فموتى القبور لا يسمعون. ولما لاحظ هذا بعض المخالفين لم يسعه إلا أن يسلم بالنفي المذكور ولكنه قيده بقوله:"سماع انتفاع" يعني أنهم يسمعون ولكن سماعا لا انتفاع فيه(10) وهذا في نقدي قلب للتشبيه المذكور في الآيتين حيث جعل المشبه به مشبها فإن القيد المذكور يصدق على موتى الأحياء من الكفار فإنهم يسمعون حقيقة ولكن لا ينتفعون من سماعهم كما هو مشاهد فكيف يجوز جعل المشبه بهم من موتى القبور مثلهم في أنهم يسمعون ولكنهم لا ينتفعون من سماعهم مع أن المشاهد أنهم لا يسمعون مطلقا ولذلك حسن التشبيه المذكور في الآيتين الكريمتين فبطل القيد المذكور.
ولقد كان من الممكن القول بنحو القيد المذكور في موتى القبور لو كان هناك نص قاطع على أن الموتى يسمعون مطلقا إذن لوجب الإيمان به والتوفيق بينه وبين ما قد يعارضه من النصوص

كالآيتين مثلا ولكن مثل هذا النص مما لا وجود له بل الأدلة قائمة على خلافه وإليك البيان: الدليل الأول: قوله تعالى في تمام الآية الثانية:}وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِين{ فقد شبههم الله تعالى ــ أعني موتى الأحياء من الكفارــ بالصم أيضا فهل هذا يقتضي في المشبه بهم (الصم) أنهم يسمعون أيضا ولكن سماعا لا انتفاع فيه أيضا أم أنه يقتضي أنهم لا يسمعون مطلقا كما هو الحق الظاهر الذي لا خفاء فيه. وفي التفسير المأثور ما يؤيد هذا الذي نقول فقال ابن جرير في "تفسيره" (21/36) لهذه الآية:
"هذا مثل معناه: فإنك لا تقدر أن تفهم هؤلاء المشركين الذين قد ختم الله على أسماعهم فسلبهم فهم ما يتلى عليهم من مواعظ تنزيله كما لا تقدر أن تفهم الموتى الذين سلبهم الله أسماعهم بأن تجعل لهم أسماعا.
وقوله:}وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ{ يقول:كما لا تقدر أن تسمع الصم الذين قد سلبوا السمع إذا ولوا عنك مدبرين كذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء الذين قد سلبهم الله فهم آيات كتابه لسماع ذلك وفهمه".
ثم روى بإسناد الصحيح عن قتادة قال:"هذا مثل ضربه الله للكافر فكما لا يسمع الميت الدعاء كذلك لا يسمع الكافر }وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ.. {يقول: لو أن أصم ولى مدبرا

ثم ناديته لم يسمع كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بما سمع". وعزاه في "الدرر" (5/114)

لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم دون ابن جرير
وقد فسر القرطبي (13/232) هذه الآية بنحو ما سبق عن ابن جرير وكأنه اختصره منه.
فثبت من هذه النقول عن كتب التفسير المعتمدة أن الموتى في قبورهم لا يسمعون كالصم إذا ولوا مدبرين وهذا هو الذي فهمته السيدة عائشة رضي الله عنها واشتهر ذلك عنها في كتب السنة وغيرها ونقله المؤلف عنها في عدة مواضع من رسالته فانظر (ص 54 56 58 68 69 71) وفاته هو وغيره أنه هو الذي فهمه عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة لما نادى النبي r أهل القليب على ما يأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى.
الدليل الثاني: قوله تعالى:}ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ{. ]فاطر13 و14[.
قلت: فهذه الآية صريحة في نفي السمع عن أولئك الذي كان المشركون يدعونهم من دون الله تعالى وهم موتى الأولياء والصالحين الذين كان المشركون يمثلونهم في تماثيل وأصنام لهم يعبدونهم فيها وليس لذاتها كما يدل على ذلك آية سورة (نوح) عن قومه:}وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً{ ففي التفسير المأثور عن ابن عباس وغيره من السلف: أن هؤلاء الخمسة أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم (أي علم تلك الصور بخصوصها) عبدت. رواه البخاري وغيره. ونحوه قوله تعالى:}وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى { ]الزمر:3[ فإنها صريحة في أن المشركين كانوا يعبدون الصالحين ولذلك اتخذوهم وسائط بينهم وبين الله تعالى قائلين: }مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى { ولاعتقادهم بصلاحهم كانوا ينادونهم ويعبدونهم من دون الله توهما منهم أنهم يسمعون ويضرون وينفعون ومثل هذا الوهم لا يمكن أن يقع فيه أي مشرك مهما كان سخيف العقل لو كان لا يعتقد فيمن يناديه الصلاح والنفع والضر كالحجر العادي مثلا وقد بين هذا العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى فقال في كتابه " إغاثة اللفهان " (2/222 ـــ 223).
"وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم.
فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام ولهذا لعن النبي r المتخذين على القبور المساجد ونهى عن الصلاة إلى القبور (11).. فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله إما جهلا وإما عنادا لأهل التوحيد ولم يضرهم ذلك شيئا. وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين.
وأما خواصهم فإنهم اتخذوها ـــ بزعمهم ـــ على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم وجعلوا لها بيوتا وسدنة وحجابا وحجبا وقربانا ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا (ثم بين مواطن بيوت هذه الأصنام وذكر عباد الشمس والقمر وأصنامهم وما اتخذوه من الشرائع حولها ثم قال 2/224):
"فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده".
قلت: ومما يؤيد أن المقصود بقوله في الآية المتقدمة }لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ{ إنما هم المعبودون من دون الله أنفسهم وليست ذوات الأصنام تمام الآية:}وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ { والأصنام لا تبعث لأنها جمادات غير مكلفة كما هو معلوم بخلاف العابدين والمعبودين فإنهم جميعا محشورون قال تعالى:}وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً{.]الفرقان/17-18[ وقال:

}وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ{ ]سـبأ:40-41[، وهذا كقوله تعالى:}وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ{ الآية ]المائدة/116[ وخير ما فسر به القرآن إنما هو القرآن والسنة وليس فيهما- فيما أعلم- ما يدل على أن الله يحشر الجمادات أيضا فوجب الوقوف عند هذه الآية الصريحة فيما ذكرنا.
وقد يقول قائل: إن هذا الذي بينته قوي متين ولكنه يخالف ما جرى عليه كثير من المفسرين في تفسير آية سورة (فاطر) وما في معناها من الآيات الأخرى فقالوا:إن المراد بها الأصنام نفسها وبناء على ذلك عللوا قوله تعالى فيها:}لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ{ بقولهم:"لأنها

جمادات لا تضر ولا تنفع".
فأقول: لا شك أنت هذا بظاهره ينافي ما بينت ولكنه لا ينفي أن يكون لهم قول آخر يتماشى مع ما حققته فقال القرطبي (14/336) عقب التعليل المذكور آنفا وتبعه الشوكاني

(4/333) وغيره ما معناه:
"ويجوز أن يرجع }وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ...{ وما بعده إلى من يعقل ممن عبدهم الكفار كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين والمعنى أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم كما أخبر عن عيسى عليه السلام بقوله:}مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إ{". وقد ذكرا نحوه في تفسير آية (الزمر) المتقدمة.
قلت: وهو أولى من تفسيرهما السابق لأنه مدعم بالآيات المتقدمة بخلاف تفسيرهما المشار إليه فإنه يستلزم القول بحشر الأصنام ذاتها وهذا مع أنه لا دليل عليه فإنه يخالف الآيات المشار إليها ولهذا قال الشيخ عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله - في كتابه "قرة عيون الموحدين" (ص107-108) في تفسير آيتي (فاطر) ما نصه:
"ابتدأ تعالى هذه الآيات بقوله:}ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ {يخبر الخبير أن الملك له وحده والملوك وجميع الخلق تحت تصرفه وتدبيره ولهذا قال:}وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ{ فإن من كانت هذه صفته فلا يجوز أن يرغب في طلب نفع أو دفع ضر إلى أحد سوى الله تعالى وتقدس بل يجب إخلاص الدعاء- الذي هو أعظم أنواع العبادة- له وأخبر تعالى أن ما يدعوه أهل الشرك لا يملك شيئا وأنهم لا يسمعون دعاء من دعاهم ولو فرض أنهم يسمعون فلا يستجيبون لداعيهم وأنهم يوم القيامة يفكرون بشركهم أي ينكرونه ويتبرؤون ممن فعله معهم. فهذا الذي أخبر به الخبير الذي }لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ{ وأخبر أن ذلك الدعاء شرك به وأنه لا يغفره لمن لقيه فأهل الشرك ما صدقوا الخبير ولا أطاعوه فيما حكم به وشرع بل قالوا: إن الميت يسمع ومع سماعه ينفع فتركوا الإسلام والإيمان رأسا كما ترى عليه الأكثرين من جهلة هذه الأمة".
فتبين مما تقدم وجه الاستدلال بقوله تعالى:}إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ{ على أن الصالحين لا يسمعون بعد موتهم وغيرهم مثلهم بداهة بل ذلك من باب أولى كما لا يخفى فالموتى كلهم إذن لا يسمعون. والله الموفق.
الدليل الثالث: حديث قليب بدر وله روايات مختصرة ومطولة أجتزئ هنا على روايتين منها:
الأولى: حديث ابن عمر قال:
"وقف النبي r على قليب بدر فقال:p هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا i؟ ثم قال:

p إنهم الآن يسمعون ما أقول i فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي r: إنهم الآن يعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق ثم قرأت:}إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى{ حتى قرأت الآية.
أخرجه البخاري (7/242- "فتح الباري") والنسائي (1/693) وأحمد (2/31) من طريق أخرى عن ابن عمر وسيأتي بعضه في الكتاب (ص68-71).
والأخرى: حديث أبي طلحة أن نبي الله r أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم:p يا فلان ابن فلان: ويا فلان ابن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا i؟ قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها ؟ فقال رسول الله r: p والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم i. قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما.
أخرجه الشيخان وغيرهما وقد خرجته في التعليق الآتي (ص54) من الكتاب.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث يتضح بملاحظة أمرين:
الأول: ما في الرواية الأولى منه من تقييده r سماع موتى القليب بقوله:p الآن i (12) فإن مفهومه أنهم لا يسمعون في غير هذا الوقت. وهو المطلوب. وهذه فائدة هامة نبه عليها العلامة الآلوسي- والد المؤلف رحمهما الله- في كتابه "روح المعاني" (6/455) ففيه تنبيه قوي على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون ولكن أهل القليب في ذلك الوقت قد سمعوا نداء النبي r وبإسماع الله تعالى إياهم خرقا للعادة ومعجزة للنبي r كما سيأتي في الكتاب

(ص56-59) عن بعض العلماء الحنفية وغيرهم من المحدثين.

وفي "تفسير القرطبي" (13/232): "قال ابن عطية(13): فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد r في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله ولولا إخبار رسول الله r بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بي من الكفرة وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين".
قلت: ولذلك أورده الخطيب التبريزي في "باب المعجزات" من "المشكاة" (ج 3رقم5938 - بتخريجي).
والآمر الآخر: أن النبي r أقر عمر وغيره من الصحابة على ما كان مستقرا في نفوسهم واعتقادهم أن الموتى لا يسمعون بعضهم أومأ إلى ذلك إيماء وبعضهم ذكر صراحة لكن الأمر بحاجة إلى توضيح فأقول:
أما الإيماء فهو في مبادرة الصحابة لما سمعوا نداءه r لموتى القليب بقولهم:"ما تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟" فإن في رواية أخرى عن أنس نحوه بلفظ "قالوا" بدل:"قال عمر" كما سيأتي في الكتاب (ص71-73) فلولا أنهم كانوا على علم بذلك سابق تلقوه منه r

ما كان لهم أن يبادروه بذلك. وهب أنهم تسرعوا وأنكروا بغير علم سابق فواجب التبليغ حينئذ يوجب على النبي r أن يبين لهم أن اعتقادهم هذا خطأ وأنه لا أصل له في الشرع

ولم نر في شيء من روايات الحديث مثل هذا البيان وغاية ما قال لهم:p ما أنتم بأسمع لما أقول منهم i. وهذا- كما ترى- ليس فيه تأسيس قاعدة عامة بالنسبة للموتى جميعا تخالف اعتقادهم السابق وإنما هو إخبار عن أهل القليب خاصة على أنه ليس ذلك على إطلاقه بالنسبة إليهم أيضا إذا تذكرت رواية ابن عمر التي فيها p إنهم الآن يسمعون i كما تقدم شرحه فسماعهم إذن خاص بذلك الوقت وبما قال لهم النبي r فقط فهي واقعة عين لا عموم لها فلا تدل على أنهم يسمعون دائما وأبدا وكل ما يقال لهم كما لا تشمل غيرهم من الموتى مطلقا وهذا واضح إن شاء الله تعالى. ويزيده ووضوحا ما يأتي.
وأما الصراحة فهي فيما رواه أحمد (3/287) من حديث أنس رضي الله عنه قال: ".... فسمع عمر صوته فقال: يا رسول الله أتناديهم بعد ثلاث ؟ وهل يسمعون ؟ يقول الله عز وجل:}إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى{ فقال: p والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع ]لما أقول[

منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا i. وسنده صحيح على شرط مسلم(14). فقد صرح عمر رضي الله عنه أن الآية المذكورة هي العمدة في تلك المبادرة وأنهم فهموا من عمومها دخول أهل القليب فيه ولذلك أشكل عليهم الأمر فصارحوا النبي r بذلك ليزيل إشكالهم ؟ وكان ذلك ببيانه المتقدم.
ومنه يتضح أن النبي r أقر الصحابة - وفي مقدمتهم عمر- على فهمهم للآية على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب وغيرهم لأنه لم ينكره عليهم ولا قال لهم: أخطأتم فالآية

لا تنفي مطلقا سماع الموتى بل إنه أقرهم على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب وغيرهم لأنه لم ينكره عليهم ولا قال لهم: أخطأتم فالآية لا تنفي مطلقا سماع الموتى بل إنه أقرهم على ذلك ولكن بين لهم ما كان خافيا من شأن القليب وأنهم سمعوا كلامه حقا وأن ذلك أمر مستثنى من الآية معجزة له r كما سبق.
هذا وإن مما يحسن التنبيه عليه وإرشاد الأريب إليه أن استدلال عائشة المتقدم بالآية يشبه تماما استدلال عمر بها فلا وجه لتخطئتها اليوم بعد تبين إقرار النبي r لعمر عليه اللهم إلا في ردها على ابن عمر في روايته لقصة القليب بلفظ السماع وتوهيمها إياه فقد تبين من اتفاق جماعة من الصحابة على روايتها كروايته هو أنها هي الواهمة وإن كان من الممكن الجمع بين روايتهم وروايتها كما سيأتي بيانه في التعليق على "الرسالة" (ص7-8) فخطؤها ليس في

الاستدلال بالآية وإنما في خفاء القصة عليها على حقيقتها ولولا ذلك لكان موقفها موقف

سائر الصحابة منها ألا وهو الموقف الجازم بها على ما أخبر به النبي r واعتبارها مستثناة من الآية.
فتنبه لهذا واعلم أن من الفقه الدقيق الاعتناء بتتبع ما أقره النبي r من الأمور والاحتجاج به لأن إقراره r حق كما هو معلوم وإلا فبدون ذلك قد يضل الفهم عن الصواب في كثير من النصوص. ولا نذهب بك بعيدا فهذا هو الشاهد بين يديك فقد اعتاد كثير من المؤلفين وغيرهم أن يستدلوا بهذا الحديث- حديث القليب- على أن الموتى يسمعون متمسكين بظاهر قوله r:p ما أنتم بأسمع لما أقول منهم i غير منتبهين لإقراره r الصحابة على اعتقادهم بأن الموتى لا يسمعون وأنه لم يرده عليهم إلا باستثناء أهل القليب منه معجزة له r فعاد الحديث بالتنبه لما ذكرنا حجة على أن الموتى لا يسمعون وأن هذا هو الأصل فلا يجوز الخروج عنه إلا بنص كما هو الشأن في كل نص عام. والله تعالى الموفق.
وقد يجد الباحث من هذا النوع أمثلة كثيرة ولعله من المفيد أن أذكر هنا ما يحضرني الآن من ذلك وهما مثالان:
الأول: حديث جابر عن أم مبشر رضي الله عنهما أنها سمعت النبي r يقول عنه حفصة:p لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها i. قالت: بلى يا رسول الله فانتهرها.فقالت حفصة:}وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا{ فقال النبي r:

p قد قال الله عز وجل:}ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً{ i.
رواه مسلم وغيره وهو مخرج في "الصحيحة" (2160) و"تخريج السنة" (860- طبع المكتب الإسلامي).
أقول: ففي استدلال السيدة حفصة رضي الله عنها بآية الورود دليل على أنها فهمت

(الورود) بمعنى الدخول وأنه عام لجميع الناس الصالح والطالح منهم ولذلك أشكل عليها نفي النبي r دخول النار في حق أصحاب الشجرة فأزال r إشكالها بأن ذكرها بتمام الآية:

}ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا{ ففيه أنه r أقرها على فهمها المذكور وأنه على ذلك أجابها بما خلاصته أن الدخول المنفي في الحديث هو غير الدخول المثبت في الآية وأن الأول خاص بالصالحين ومنهم أهل الشجرة والمراد به نفي العذاب أي أنهم يدخلونها مرورا إلى الجنة دون أن تمسهم بعذاب. والدخول الآخر عام لجميع الناس ثم هم فريقان:منهم من تمسه بعذاب ومنهم على خلاف ذلك وهذا ما وضحته الآية نفسها في تمامها وراجع لهذا "مبارق الأزهار" (1/250) و"مرقاة المفاتيح" (5/621-632).
قلت: فاستفدنا من الإقرار المذكور حكما لولاه لم نهتد إلى وجه الصواب في الآية وهو أن الورود فيها بمعنى الدخول وأنه لجميع الناس ولكنها بالنسبة للصالحين لا تضرهم بل تكون عليهم بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم وقد روي هذا صراحة مرفوعا في حديث آخر لجابر لكن استغربه الحافظ ابن كثير وبينت علته في "الأحاديث الضعيفة" (4761). لكن حديثه هذا عن أم مبشر يدل على صحة معناه وقد مال إليه العلامة الشوكاني في تفسيره للآية (3/333) واستظهره من قبله القرطبي (11/138-139) وهو المعتمد.
والآخر: حديث "الصحيحين" والسياق للبخاري نقلا من "مختصر البخاري" بقلمي لأنه أتم جمعت فيه فوائده وزوائده من مختلف مواضعه قالت عائشة:
"دخل علي رسول الله r وعندي جاريتان ]من جواري الأنصار 3/3[(وفي رواية: قينتان 4/266)]في أيام منى تدففان وتضربان 4/161[ تغنيان بغناء (وفي رواية: بما تقاولت (وفي أخرى تقاذفت) الأنصار يوم) بعاث(15). ]وليستا بمغنيتين[، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه ودخل أبو بكر ]والنبي r متغش بثوبه 2/11[ فانتهرني (وفي رواية: فانتهرهما) وقال: مزمارة (وفي رواية: مزمار) الشيطان عند (وفي رواية: أمزامير الشيطان في بيت) رسول الله r ](مرتين)[؟ فأقبل عليه رسول الله r (وفي رواية: فكشف النبي r عن وجهه) فقال:"دعهما]يا أبا بكر ! ] فــ[ إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا[". فلما غفل غمزتهما فخرجتا". (رقم 508 من "المختصر").
قلت: فنجد في هذا الحديث أن النبي r لم ينكر قول أبي بكر الصديق في الغناء بالدف أنه "مزمار الشيطان" ولا نهره لابنته أو للجاريتين بل أقره على ذلك فدل إقراره إياه على أن ذلك معروف وليس بمنكر فمن أين جاء أبو بكر بذلك؟ الجواب: جاء به من تعاليم النبي r وأحاديثه الكثيرة في تحريم الغناء وآلات الطرب وقد ذكر طائفة منها العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" (1/258-267) وخرجت بعضها في "الصحيحة"(91) و"المشكاة" (3652) ولولا علم أبي بكر بذلك وكونه على بينة من الأمر ما كان له أن يتقدم بين يدي النبي r وفي بيته بمثل هذا الإنكار الشديد غير أنه كان خافيا عليه أن هذا الذي أنكره يجوز في يوم عيد فبينه له النبي r بقوله: p دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا i فبقي إنكار أبي بكر العام مسلما به لإقراره r إياه ولكنه استثنى منه الغناء في العيد فهو مباح بالمواصفات الواردة في هذا الحديث.
فتبين أنه r كما أقر عمر على استنكاره سماع الموتى كذلك أقر أبا بكر على استنكاره مزمار الشيطان وكما أنه أدخل على الأول تخصيصا كذلك أدخل على قول أبي بكر هذا تخصيصا اقتضى إباحة الغناء المذكور في يوم العيد ومن غفل عن ملاحظة الإقرار الذي بينا أخذ من الحديث الإباحة في كل الأيام كما يحلو ذلك لبعض الكتاب المعاصرين وسلفهم فيه ابن حزم فإنه استدل به على الإباحة مطلقا جمودا منه على الظاهر فإنه قال في رسالته في الملاهي (ص98-99):
"وقد سمع رسول الله r قول أبي بكر:"مزمار الشيطان" فأنكر عليه ولم ينكر على الجاريتين غناءهما".
والواقع أنه ليس في كل روايات الحديث الإنكار المذكور وإنما فيه قوله r لأبي بكر:

p دعهما... i وفرق كبير بين الأمرين فإن الإنكار الأول لو وقع لشمل الآخر ولا عكس كما هو ظاهر بل نقول زيادة على ذلك: إن النبي r أقر قول أبي بكر المذكور كما سبق بيانه، وقد قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" بعد أن ذكر الحديث (1/257):
"فلم ينكر رسول الله r على أبي بكر تسميته الغناء مزمار الشيطان وأقرهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب وكان اليوم يوم عيد".
وأما أنه r لم ينكر على الجاريتين فحق ولكن كان ذلك في يوم عيد فلا يشمل غيره أولا.

وثانيا: لما أمر r أبا بكر بأن لا ينكر عليهما بقوله: p دعهما i أتبع ذلك بقوله: p فإن لكل قوم عبدا... i فهذه جملة تعليلية تدل على أن علة الإباحة هي العيدية إذا صح التعبير ومن المعلوم أن العلة تدور مع المعلول وجودا وعدما فإذا انتفت هذه العلة بأن لم يكن يوم عيد لم يبح الغناء فيه كما هو ظاهر ولكن ابن حزم لعله لا يقول بدليل العلة كما عرف عنه أنه لا يقول بدليل الخطاب وقد رد عليه العلماء ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية في غير

ما موضع من "مجموع الفتاوى" فراجع المجلد الثاني من "فهرسه".
لقد طال الكلام على حديث عائشة في سماع الغناء ولا بأس من ذلك إن شاء الله تعالى فإن الشاهد منه واضح ومهم وهو أن ملاحظة طالب العلم إقرار النبي r لأمر ما يفتح عليه بابا من الفقه والفهم ما كان ليصل إليه بدونها. وهكذا كان الأمر في حديث القليب فقد تبين بما سبق أنه دليل صريح على أن الموتى لا يسمعون وذلك من ملاحظتنا إقرار النبي r لاستنكار عمر سماعهم واستدلاله عليه بالآية }إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى{ فلا يجوز لأحد بعد هذا أن يلتفت إلى أقوال المخالفين القائلين بأن الموتى يسمعون فإنه خلاف القرآن الذي بينه الرسول r.
الدليل الرابع: قول النبي r:p إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي

السلام i (16).
أقول: ووجه الاستدلال به أنه صريح في أن النبي r لا يسمع سلام المسلمين عليه إذ لو كان يسمعه بنفسه لما كان بحاجة إلى من يبلغه إليه كما هو ظاهر لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك فبالأولى أنه r لا يسمع غير السلام من الكلام وإذا كان كذلك فلأن لا يسمع السلام غيره من الموتى أولى وأحرى.
ثم إن الحديث مطلق يشمل حتى من سلم عليه r عند قبره ولا دليل يصرح بالتفريق بينه وبين من صلى عليه بعيدا عنه والحديث المروي في ذلك موضوع كما سيأتي بيانه في التعليق (ص80).
وهذا الاستدلال لم أره لأحد قبلي فإذا كان صوابا- كما أرجو - فهو فضل من الله ونعمة وإن كان خطأ فهو من نفسي والله تعالى أسأل أن يغفره لي وسائر ذنوبي.
أدلة المخالفين: فإن قيل: يظهر من النقول التي ستأتي في الرسالة عن العلماء أن المسألة خلافية فلا بد أن المخالفين فيها أدلة استندوا إليها.
فأقول: لم أر فيها من صرح بأن الميت يسمع سماعا مطلقا عاما كما كان شأنه في حياته

ولا أظن عالما يقول به وإنما رأيت بعضهم يستدل بأدلة يثبت بها سماعا لهم في الجملة وأقوى ما استدلوا به سندا حديثان:
الأول: حديث قليب بدر المتقدم وقد عرفت مما سبق بيانه أنه خاص بأهل القليب من جهة وأنه دليل على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون من جهة أخرى وأن سماعهم كان خرقا للعادة فلا داعي للإعادة.
والآخر:حديث:p إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا i. وفي رواية p إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان... i الحديث (انظر ص55،56،57،82) من "الآيات".
وهذا كما ترى خاص بوقت وضعه في قبره ومجيء الملكين إليه لسؤاله فلا عموم فيه وعلى ذلك حمله العلماء كابن الهمام وغيره كما سيأتي في "الآيات" (ص56،59،73).
ولهم من هذا النوع أدلة أخرى ولكن لا تصح أسانيدها وفي أحدها التصريح بأن الموتى يسمعون السلام عليهم من الزائر وسائرها ليس في السماع وبعضها خاص بشهداء أحد وكلها ضعيفة وبعضها أشد ضعفا من بعض كما ستراه في التعليق (ص69).
وأغرب ما رأيت لهم من الأدلة قول ابن القيم رحمه الله في "الروح" (ص8) تحت المسألة الأولى: هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا؟ فأجاب بكلام طويل جاء فيه

ما نصه:"ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم وكذلك السلام عليهم أيضا فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال وقد علم النبي r أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: سلام عليكم أهل الديار.... " وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد وإن لم يسمع المسلم الرد".
أقول وبالله تعالى التوفيق:
رحم الله ابن القيم فما كان أغناه من الدخول في مثل هذا الاستدلال العقلي الذي لا مجال له في أمر غيبي كهذا فوالله لو أن ناقلا نقل هذا الكلام عنه ولم أقف أنا بنفسي عليه لما صدقته لغرابته وبعده عن الأصول العلمية والقواعد السلفية التي تعلمناها منه ومن شيخه الإمام ابن تيمية فهو أشبه شيء بكلام الآرائيين والقياسيين الذين يقيسون الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق وهو قياس باطل فاسد طالما رد ابن القيم أمثاله على أهل الكلام والبدع ولهذا وغيره فإني في شك كبير من صحة نسبة "الروح" إليه أو لعله ألفه في أول طلبه للعلم. والله أعلم.
ثم إن كلامه مردود في شطريه بأمرين:
الأول: ما ثبت في "الصحيح" أن النبي r كان يزور البيت في الحج وأنه كان وهو في المدينة يزور قباء راكبا وماشيا ومن المعلوم تسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة. فهل من أحد يقول: بأن البيت وقباء يشعر كل منهما بزيارة الزائر أو أنه يعلم بزيارته؟
وأما الآخر: فهو مخاطبة الصحابة للنبي r في تشهد الصلاة بقولهم:"السلام عليكم أيها النبي..." وهم خلفه قريبا منه وبعيدا عنه في مسجده وفي غير مسجده أفيقال: إنه كان يسمعهم ويشعر بهم حين يخاطبونه به وإلا فالسلام عليه محال؟ اللهم غفرا. وانظر التعليق الآتي على الصفحة (95-96).
وإذا كان لا يسمع هذا الخطاب في قيد حياته أفيسمعه بعد وفاته وهو في الرفيق الأعلى

لا سيما وقد ثبت أنه يبلغه ولا يسمعه كما سبق بيانه في الدليل الرابع (ص36)؟

ويكفي في رد ذلك أن يقال:إنه استدلال مبني على الاستنباط والنظر فمثله قد يمكن

الاعتداد به إذا لم يكن مخالفا للنص والأثر فكيف وهو مخالف لنصوص عدة واحد منها فقط فيه كفاية وغنية كما سلف وبخاصة منها حديث قليب بدر وفيه إقرار النبي r لعمر أن الموتى لا يسمعون فلا قيمة إذن للاستنباط المذكور فإن الأمر كما قيل:"إذا جاء الأثر بطل النظر وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل".
وقد يتساءل القارئ - بعد هذا- عن وجه مخاطبة الموتى بالسلام وهم لا يسمعونه؟ وفي الإجابة عنه أحيل القارئ إلى ما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى فيما يأتي من الرسالة وما علقته عليها (ص95- 96) فإن في ذلك كفاية وغنية عن الإعادة.

وخلاصة البحث والتحقيق: أن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الحنفية وغيرهم

- كما ستراه في الكتاب مبسوطا- على أن الموتى لا يسمعون وأن هذا هو الأصل فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال كما في حديث خفق النعال أو أن بعضهم سمع في وقت ما كما في حديث القليب فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلا فيقال إن الموتى يسمعون كما فعل بعضهم(17) كلا فإنها قضايا جزئية لا تشكل قاعدة كلية يعارض بها الأصل المذكور بل الحق أنه يجب أن تستثني منه على قاعدة استثناء الأقل من الأثر أو الخاص من العام كما هو المقرر في علم أصول الفقه ولذلك قال العلامة الآلوسي في "روح المعاني" بعد بحث مستفيض في هذه المسألة (6/455):"والحق أن الموتى يسمعون في الجملة فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه".
وهذا مذهب طوائف من أهل العلم كما قال الحافظ ابن جرب الحنبلي على ما سيأتي

في الرسالة (ص70).

وما أحسن ما قاله ابن التين رحمه الله:"إن الموتى لا يسمعون بلا شك لكن إذا أراد الله تعالى إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع لقوله تعالى:}إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ{ الآية وقوله: }فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً{ الآية.كما نقله المؤلف فيما يأتي (ص72).
فإذا علمت أيها القارئ الكريم أن الموتى لا يسمعون فقد تبين أنه لم يبق هناك مجال لمناداتهم من دون الله تعالى ولو بطلب ما كانوا قادرين عليه وهم أحياء كما تقدم بيانه في(ص16-21) بحكم كونهم لا يسمعون النداء وأن مناداة من كان كذلك والطلب منه سخافة في العقل وضلال في الدين وصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم:}وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ{. ]الأحقاف:5- 6[.
هذا ولما كان الواقع يشهد أنه لا يزال في هؤلاء المبتلين بنداء الموتى والاستغاثة بهم من دون الله تعالى من يرجو الدار الآخرة ويحرص على معرفة الحق واتباعه إذا تبين له اقتطعت من وقتي الضيق ما مكنني من التعليق على هذه الرسالة النافعة إن شاء الله تعالى وتحقيقها وتخريج أحاديثها ووضع هذه المقدمة بين يديها راجيا من المولى سبحانه وتعالى أن ينفع بها المخلصين من المسلمين ويجعلنا وإياهم من }الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ{. ]الزمر:18[.

دمشق 15 جمادى الأولى سنة 1398 هـ

وكتب/ محمد ناصر الدين الألباني

ترجمة المؤلف*:

هو السيد الشريف نعمان خير الدين أبو البركات نجل العلامة المفسر السيد شهاب الدين محمود، ابن السيد عبد الله الألوسي البغدادي، ينتهي نسبه من جهة الأب إلى الحسين، ومن جهة الأم إلى الحسن رضي الله عنهما، من طريق الشيخ السيد عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى.

ولد رحمه الله في محرم سنة (1252هـ) في أرض التعصب الأعمى والجمود الذميم، قال الأثري:(ولكنه نشأ بفطرته حر الضمير، نير البصيرة، ورُبي على الآداب الإسلامية الفاضلة، ولولا أن يتيح الله من ينمي فيه قوة الاستعداد، ويربي في الجملة ملكة الاستقلال فيه، (وهو أبوه، وتلميذه العالم السلفي السيد أمين الواعظ) لغلبة جمود البيئة، واستحواذ عليه الخمول، على أنه لم يسلم من العدوى كل السلامة، فظهر في بعض مؤلفاته:"غالية المواعظ" و"الإصابة في منع النساء من الكتابة"، ولكن حسب من نشأ في هذه البلاد في تلك الأيام الحالكة فخراً أن يكون مثل السيد نعمان في استقلاله واعتداله، وجرأته على الدعوة ومجاهدة فريق الجمود والتقليد).

تولى في شبابه القضاء، في بلاد متعددة، سار فيها سيرة حميدة، ثم ترك المناصب، وتفرغ للتدريس والتأليف،وزار مصر في طريقه إلى الحج، وقصد الآستانة (استانبول)سنة (1300هـ) ومكث سنتين، ثم عاد يحمل لقب "رئيس المدرسين"، فعكف على التدريس، إلى أن مات.

وله آثار نافعة، أجلها "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين"، يعني الإمام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، والفقيه أحمد بن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي، وقد وصفه العلامة السيد صديق حسن خان بقوله:

وهو (كتاب جليل المقدار، مفيد الأحرار، يعز له مثيل، بل لا يُلفى له بديل).

وكانت بينه وبين السيد صديق مراسلات ومفاوضات، وله منه إجازة.

وكان رحمه الله جوزيَّ زمانه في الوعظ والتذكير، فكان في كل سنة يجلس في شهر رمضان للوعظ في أحد المساجد الواسعة، فيقصد من أطراف البلد، حتى يغص المكان بالمستمعين، فاتفق له في (رمضان سنة 1305) أن استطرد في مجلس من مجالسه بحث سماع الموتى، فذكر ما قاله الحنفية في كتبهم الفقهية، من عدم سماع الموتى كلام الأحياء، فقام حشوية بغداد وقعدوا، وأنكروا عليه هذا العزو، وأثاروا أفراد الجهلة - كما هي عادتهم في كل زمان ومكان - وكادت تقع فتنة تسود وجه التاريخ، ولكنه بدهائه وحلمه سكن ثائرتهم، فجمع في اليوم الثاني كل ما لديه من كتب المذاهب الأربعة، وارتقى كرسي الوعظ - وقد احتشدت الجموع – فأعاد البحث، وصدع بالبيان، ثم أخذ يتناول كتاباً كتاباً، فيتلو نصوص العلماء، ثم يرمي بها إلى المستمعين ويصرخ: هؤلاء علماؤكم، فإن كنتم في ريب منهم فدونكموهم وناقشوهم الحساب! حتى إذا فرغ، نهض واخترق الجموع الثائرة، غير وجل ولا هياب فأقبلوا عليه يقبلون يديه، ويعتذرون إليه من قيامهم بتحريك المرجفين من فريق المقلدة والجامدين، فكان ذلك سبب تأليفه لهذه الرسالة، وقد أشار إلى ذلك في مقدمتها.

وهكذا أمضى عمره بالتدريس والوعظ والتأليف، إلى أن جاءه اليقين صبيحة الأربعاء السابع من المحرم سنة 1317هـ، رحمه الله.

































































الآيات البينات
في عدم سماع الأموات

عند الحنفية السادات

تأليف

العلامة نعمان ابن المفسر الشهير محمود الآلوسي















الحمد لله محيي الأموات ومعيد الرفات ومجازيهم على المعاصي ومثيبهم على الطاعات والسامع من الداعين خفي الأصوات الذي لا يخفى عليه شيء في الأرضين والسموات.
والصلاة والسلام على من كان تكليم الجماد له إحدى المعجزات وعلى آله وصحبه أصحاب الكرامات الباهرات.
أما بعد: فإني في شهر رمضان عام خمس وثلثمائة وألف من هجرة من أنزل عليه القرآن تفصيلا لكل شئ وتبيانا ذكرت في مجلس درسي العام ما قالته الأئمة الأحناف الأعلام في كتبهم الفقهية وأحكامهم الشرعية من عدم سماع الموتى كلام الأحياء وأن من خلف لا يكلم زيدا فكلمه وهو ميت لا يحنث وعليه فتوى العلماء فأشاع بعض من انتسب إلى العلم من غير إدراك لما حرروه ولا فهم أن هذا العزو غير صحيح وأنه قول منكر مغاير للشرع الرجيح وأنه لم يعتقد ذلك أحد من أصحاب الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فاتبعه أتباع كل ناعق من أفراد الجهلة والعوام والمرجفون في مدينة السلام فأحببت للنصيحة في الدين ولتبيان ما أتى في الكتاب المبين وتعليم إخواني المسلمين أن أجمع في هذه الرسالة أقوال أصحابنا الأحناف وما قاله غيرهم من الأئمة والفقهاء الأشراف وأن أحرر ما قالوه وأنقل من كتبهم ما سطروه بعباراتهم المفصلة ونصوصهم المطولة وأدلتهم المحبرة وأجوبتهم المحررة ليتضح للعامة ما جهلوه ويظهر للمعاندين صواب ما أخطأوه ورتبتها على ثلاثة فصول وخاتمة جامعة إن شاء الله تعالى:للمعقول والمنقول وللنزاع حاسمة وسميتها: "الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات".
والله سبحانه المسئول أن يوفقنا للصواب ويرزقنا استماع الحق واتباعه في المبدأ والمآب.

الفصل الأول

في نقل كلام الأئمة الحنفية في ذلك

قال العلامة الحصكفي(18) الحنفي في كتابه الشهير ب "الدر المختار شرح تنوير الأبصار" في "باب اليمين في الضرب والقتل وغير ذلك" (19) ما لفظه:
"(ما شارك الميت فيه الحي يقع اليمين فيه على الحالتين): الموت والحياة (وما اختص بحالة الحياة) وهو كل فعل يلذ (20) ويؤلم ويغم ويسر كشتم وتقبيل (تقيد بها) ثم فرع عليه:(فلو قال:إن ضربتك أو كسوتك أو كلمتك أو دخلت عليك أو قبلتك تقيد) كل منها (بالحياة) حتى لو علق بها طلاقا أو عتقا لم يحنث بفعلها في ميت (بخلاف الغسل والحمل والمس وإلباس الثوب) كحلفه: لا يغسله أو لا يحمله لا تتقيد بالحياة ".انتهى.
وقال محشيه العلامة الطحطاوي (21) ما لفظه:
(قوله:(أو كلمتك) إنما تقيد بالحياة لأن المقصود من الكلام الإفهام والموت ينافيه لأن الميت لا يسمع ولا يفهم. وأورد أنه عليه الصلاة والسلام قال لأهل القليب قليب بدر:p هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاi؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها؟

فقال النبي r:p والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم i (22).

وأجيب عنه بأنه غير ثابت يعني من جهة المعنى وإلا فهو في الصحيح(23) وذلك أن عائشة رضي اللهتعالى عنها ردته بقوله تعالى:}وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ{ و}إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى{.وقوله:"من جهة المعنى"ينظر ما المراد به؟ فإن ظاهره يقتضي ورود اللفظ من الشارع r وأن المعنى لا يستقيم وفيه ما فيه (24).
وأجيب أيضا بأنه إنما قاله عليه الصلاة والسلام على وجه الموعظة للأحياء لا لإفهام الموتى كما روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين أما نساؤكم فنكحت وأما أموالكم فقسمت وأما دوركم فقد سكنت فهذا خبركم

عندنا فما خبرنا عندكم ؟"(25).

ويرده أن بعض الأموات رد عليه بقوله:"الجلود تمزقت والأحداق قد سالت ما قدمنا

ما لقينا وما أكلنا ربحنا وما خلفنا خسرنا"(26). أو كلاما هذا كما في بعض شراح

"الجامع الصغير" وأيضا ورد عنه عليه الصلاة والسلام:p إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا

انصرفوا i (27)."كمال" (28). وفي "النهر"(29):: أحسن ما أجيب به أنه كان معجزة له r. انتهى(30).
وقال شيخ مشائخنا العلامة ابن عابدين في "حاشيته"(31) على الكتاب المذكور ما لفظه:
(وأما الكلام فلأن المقصود منه الإفهام والموت ينافيه ولا يرد ما في "الصحيح" من قوله لأهل قليب بدر:p هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا i؟ فقال عمر رضي الله عنه: أتكلم الميت يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: p والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم أو من هؤلاء i. فقد أجاب عنه المشايخ بأنه غير ثابت يعني من جهة المعنى (32). وذلك لأن عائشة رضي الله تعالى عنها ردته بقوله تعالى:}وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ{ و}إِنَّكَ

لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى{ وأنه إنما قاله على وجه الموعظة للأحياء وبأنه مخصوص بأولئك تضعيفا

للحسرة عليهم وبأنه خصوصية له عليه الصلاة والسلام معجزة. لكن يشكل عليهم ما في "مسلم": p إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا i إلا أن يخصوا ذلك بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال(33) جمعا بينه وبين الآيتين فإنه شبه فيهما الكفار بالموتى لإفادة بعد سماعهم وهو فرع عدم سماع الموتى. هذا حاصل ما ذكره في "الفتح" هنا وفي "الجنائز".
ومعنى الجواب الأول أنه وإن صح سنده لكنه معلول من جهة المعنى بعلة تقتضي عدم ثبوته عنه عليه الصلاة والسلام وهي مخالفته للقرآن فافهم) انتهى كلام ابن عابدين عليه الرحمة.
ولنذكر كلام إمام الحنفية ابن الهمام(34) في "فتح القدير" حاشية "الهداية" فإنه قال في "باب الجنائز" على قوله:"ولقن الشهادة لقوله عليه الصلاة والسلام:p لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله i (35) والمراد: الذي قرب من الموت "ما نصه:(قوله:(والمراد: الذي قرب من الموت) مثل لفظ القتيل في قوله عليه الصلاة والسلام:p من قتل قتيلا فله سلبه i(36).
وأما التلقين من بعد الموت وهو في القبر: فقيل: يفعل لحقيقة ما روينا(37) ونسب لأهل السنة والجماعة وخلافه إلى المعتزلة وقيل:لا يؤمر به ولا ينهى عنه(38) ويقول:"يا فلان بن فلان (39) اذكر دينك الذي كنت عليه في دار الدنيا:شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " (40) ولا شك أن اللفظ لا يجوز إخراجه عن حقيقته إلا بدليل فيجب تعيينه وما في "الكافي" من أنه "إن كان مات مسلما لم يحتج إليه من بعد الموت وإلا لم يفد" يمكن جعله الصارف يعني أن المقصود منه التذكير في وقت تعرض الشيطان وهذا لا يفيد بعد الموت(41) وقد يختار الشق الأول والاحتياج إليه في حق التذكير لتثبت الجنان للسؤال فنفي الفائدة مطلقا ممنوع. نعم الفائدة الأصلية منتفية.
وعندي أن مبنى ارتكاب هذا المجاز هنا عند أكثر مشايخنا رحمهم الله تعالى هو أن الميت لا يسمع عندهم على ما صرحوا به في كتاب ]الايمان[ في "باب اليمين بالضرب":"لو حلف لا يكلمه فكلمه ميتا لا يحنث لأنها تنعقد على ما بحيث يفهم والميت ليس كذلك لعدم السماع. وورد عليه قوله r في أهل القليب:p ما أنتم بأسمع منهم i.
وأجابوا تارة بأنه مردود من عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:كيف يقول عليه الصلاة والسلام ذلك والله تعالى يقول:}وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ {و}إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى{ ؟ وتارة بأن تلك خصوصية له r معجزة وزيادة حسرة على الكافرين(42) وتارة بأنه من ضرب المثل كما قال علي رضي الله تعالى عنه.
ويشكل عليهم ما في "مسلم":p إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا i (43).
اللهم إلا أن يخصوا ذلك بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال(44) جمعا بينه وبين الآيتين فإنهما تفيدان تحقيق عدم سماعهم فإنه تعالى شبه الكفار بالموتى لإفادة تعذر سماعهم وهو فرع عدم سماع الموتى إلا أنه على هذا ينبغي التلقين من بعد الموت لأنه يكون حين إرجاع الروح فيكون حينئذ لفظ (موتاكم) في حقيقته وهو قول طائفة من المشايخ أو هو مجاز باعتبار ما كان نظرا إلى أنه ]الآن[ حي إذ ليس معنى الحديث إلا من في بدنه الروح. وعلى كل حال هو محتاج إلى دليل آخر في التلقين حالة الاحتضار(45) إذ لا يراد الحقيقي والمجازي معا ولا مجازيان وليس يظهر معنى يعم الحقيقي والمجازي حتى يعتبر مستعملا فيه ليكون من عموم المجاز للتضاد وشرط إعماله فيهما أن لا يتضادا). انتهى كلام العلامة ابن الهمام.
وقال أيضا العلامة الشيخ أحمد الطحطاوي في حاشيته على "مراقي الفلاح" للشرنبلالي "شرح نور الإيضاح" في "باب أحكام الجنائز" على قول الشارح:"قال المحقق ابن همام: وحمل أكثر مشايخنا إياه على المجاز أي من قرب ]من[ الموت مبناه على أن الميت لا يسمع عندهم" ما نصه(46)::"قوله:(مبناه على أن الميت لا يسمع عندهم) على ما صرحوا به في "كتاب الأيمان": لو حلف لا يكلمه فكلمه ميتا لا يحنث لأنها تنعقد على من يفهم والميت ليس كذلك لعدم السماع قال الله تعالى:}وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ {}إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى {وهو يفيد تحقيق عدم سماع الموتى إذ هو فرعه"انتهى كلام الشرنبلالي والطحطاوي.
وقال العلامة العيني(47) في "شرح الكنز" في "باب اليمين في الضرب والقتل وغير ذلك" بعد قول الماتن:"وكلمتك: تقيد بالحياة" ما لفظه:
"لأن الضرب هو الفعل المؤلم ولا يتحقق في الميت والمراد في الكلام الإفهام. وأنه يختص بالحي" انتهى(48). ومثله في " البحر "(49) ونصه:"لأن المقصود من الكلام الإفهام والموت ينافيه".
وقال العلامة ابن ملك(50) في "مبارق الأزهار شرح مشارق الأنوار"(51) الجامع بين "الصحيحين" (52) في قوله عليه الصلاة والسلام:p إنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا i:
"وفيه دلالة على حياة الميت في القبر لأن الإحساس بدون الحياة ممتنع عادة وهل ذلك بإعادة الروح أو لا ؟ ففيه اختلاف العلماء فمنهم من يقول بتلك وتوقف أبو حنيفة في ذلك" انتهى بلفظه.
فتبين من "تنوير الأبصار" وشرحه "الدر المختار" و"حاشيته" للطحطاوي ولابن عابدين ومن "فتح القدير" و"الهداية" ومن "مراقي الفلاح" و"حاشيته" و"شروح الكنز" ومن سائر المتون المبنية على المفتى به من قول الإمام أبي حنيفة وصاحبيه ومشايخ المذهب: أن الميت لا يسمع بعد خروج روحه كما قالت ]عائشة[ وتبعها طائفة من أهل العلم والمذاهب الأخرى وأن الحنفية لم يحكوا خلافا في حكمهم هذا عن أحد من علماء المذهب ولم يحنثوا الحالف كما فصلنا. وهو المطلوب ولله الحمد.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يؤيد هذه الأقوال في الفصل الثاني والثالث فانتظرهما





ولا تغفل(53).

]تتمة في التلقين بعد الدفن[

اعلم أن مسألة التلقين قبل الموت لم نعلم فيها خلافا(54) وأما بعد الموت وهي التي تقدم ذكرها في "الهداية" وغيرها فاختلف الأئمة والعلماء فيها فالحنفية لهم فيها ثلاثة أقوال:
الأول: أنه يلقن بعد الموت لعود الروح للسؤال.
والثاني: لا يلقن.
والثالث: لا يؤمر به ولا ينهى عنه(55).
وعند الشافعية يلقن كما قال ابن حجر(56) في "التحفة"(57).
"ويستحب تلقين بالغ عاقل أو مجنون سبق له تكليف ولو شهيدا كما اقتضاه إطلاقهم بعد تمام الدفن لخبر فيه وضعفه اعتضد بشواهد(58) على أنه من الفضائل فاندفع قول ابن عبد السلام: أنه بدعة " (59). انتهى.
وأما عند الإمام مالك نفسه فمكروه قال الشيخ علي المالكي في كتابه "كفاية الطالب الرباني لختم رسالة ابن أبي زيد القيرواني"ما لفظه:
"وأرخص (بمعنى استحب) بعض العلماء (هو ابن حبيب) في القراءة عند رأسه أو رجليه أو غيرهما ذلك بسورة (يس) لما روي أنه r قال:p ما من ميت يقرأ عند رأسه سورة } يس{ إلا هون الله تعالى عليهi (60) ولم يكن ذلك أي ما ذكر من القراءة عند المحتضر عند مالك رحمه الله تعالى أمرا معمولا وإنما هو مكروه عنده وكذا يكره عند تلقينه بعد وضعه في قبره". انتهى.
وأما الحنبلية فعند أكثرهم يستحب قال الشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني الحنبلي(61) في "شرح دليل الطالب ما لفظه":"واستحب الأكثر تلقينه بعد الدفن" انتهى.
واستفيد منه أن غير الأكثر من الحنابلة يقول: بعدم التلقين بعد الموت أيضا(62).
وأما الظاهرية فالظاهر من كلام أبي محمد(63) بن حزم الذي هو من أجل العلماء الظاهرية:

عدم التلقين أيضا كما سيأتي في الفصل الثالث فلا تغفل.





































الفصل الثاني
في النقل عمن وافق الأئمة الحنفية في عدم السماع
من علماء المذاهب الثلاثة وغيرهم

قال الإمام النووي(64) الشافعي رحمه الله تعالى في شرحه لـ "صحيح مسلم" في "باب عرض مقعد الميت من الجنة" في الكلام على قوله r في قتلى بدر:p ما أنتم بأسمع لما أقول منهم i
ما عبارته(65): :
"قال المازري(66): قال بعض الناس: الميت يسمع عملا بظاهر هذا الحديث. ثم أنكره المازري وادعى أن هذا خاص في هؤلاء". انتهى المقصود منه بلفظه.
وأنت تعلم أن المازري من أجل العلماء المالكية المتقدمين وسيأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الثالث نقل الزرقاني المالكي عن الباجي والقاضي عياض الإمامين المالكيين القول أيضا بعدم السماع فليحفظ. وقال الشيخ محمد السفاريني(67) الحنبلي في كتابه "البحور الزاخرة في أحوال الآخرة" ما عبارته:
"وأنكرت عائشة رضي الله تعالى عنها سماع الموتى. وقالت: ما قال رسول الله r:
"إنهم ليسمعون الآن ما أقول" إنما قال:"ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم أنه حق" ثم قرأت

قوله تعالى:}إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى{ }وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ{ (68) قال الحافظ

ابن رجب(69):
"وقد وافق عائشة على نفي سماع الموتى كلام الأحياء طائفة من العلماء ورجحه القاضي أبو يعلى(70) من أكابر أصحابنا في كتابه "الجامع الكبير" واحتجوا بما احتجت به وأجابوا عن حديث قليب بدر بما أجابت ]به[ عائشة رضي الله تعالى عنها وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي r دون غيره ]وهو سماع الموتى لكلامه[ وفي "صحيح البخاري":

"قال قتادة:"أحياهم الله تعالى - يعني أهل القليب - حتى أسمعهم قوله r توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما". وذهب طوائف من أهل العلم إلى سماع الموتى كلام الأحياء في الجملة". انتهى ما هو المقصود منه.
فتبين منه أن طائفة من العلماء وافقوا عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا على عدم السماع وأن منهم القاضي أبو يعلى الذي هو من أكابر العلماء الحنبلية كما هو مذهب أئمتنا الحنفية رحمهم الله تعالى.

وفي "روح المعاني"(71) :"واحتج من أجاز السماع في الجملة بما رواه البيهقي(72) والحاكم

- وصححه - وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي r وقف على مصعب بن عمير وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال:"أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى فزوروهم. وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم أحد عليهم إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة".
وأجاب المانعون أن تصحيح الحاكم غير معتبر(73) وأنا إن سلمنا صحته نلتزم القول بأن الموتى الذين لا يسمعون هم من عدا الشهداء لأن الشهداء يسمعون في الجملة لامتيازهم على سائر الموتى بما أخبر عنهم من أنهم أحياء عند الله عز وجل.
واحتجوا أيضا بحديث:"ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه".
وأجاب المانعون: إن الحافظ ابن رجب تعقبه وقال:"إنه ضعيف بل منكر"(74) انتهى (75). باختصار من تفسير سورة (الروم).
وفي "صحيح البخاري" (76) في "باب دعاء النبي r على كفار قريش وهلاكهم يوم بدر"

من(77) حديث هشام عن أبيه قال:(ذكر عند عائشة رضي الله تعالى عنها أن ابن عمر رفع إلى النبي r:p إن الميت ليعذب في قبره ببكاء أهله i فقالت: وهل إنما قال رسول الله r: "إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن". قالت: وذلك مثل قوله: إن رسول الله r قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم، ما قال إنهم ليسمعون ما أقول إنما قال: إنهم الآن(78) ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق ثم قرأت }إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى{ و}مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ{ يقول: حين تبوأوا مقاعدهم من النار) انتهى. ما في "صحيح البخاري" فقال الحافظ ابن حجر في "شرحه"(79):
"وقال السهيلي ما محصله: إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك للنبي r لقول الصحابة له: أتخاطب أقواما قد جيفوا ؟ فأجابهم (80). قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين ]جاز[ أن يكونوا سامعين وذلك إما بآذان رؤوسهم على قول الأكثر أو بآذان

قلوبهم. قال: وقد تمسك بهذا الحديث من يقول: إن السؤال يتوجه على الروح والبدن.

ورده من قال: إنما يتوجه على الروح فقط بأن الإسماع يحتمل أن يكون لأذن الرأس ولأذن القلب فلم يبق فيه حجة.
قلت(81): إذا كان الذي وقع حينئذ من خوارق العادة للنبي r لم يحسن التمسك به في مسألة السؤال أصلا.
وقد اختلف أهل التأويل في المراد بـ }الْمَوْتَى{ في قوله تعالى:} إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى{ وكذلك المراد ب }مَنْ فِي الْقُبُورِ{ فحملته عائشة على الحقيقة وجعلته أصلا احتاجت معه إلى تأويل قوله عليه الصلاة والسلام:p ما أنتم بأسمع لما أقول منهم i وهذا قول الأكثر. وقيل هو مجاز والمراد ب }الْمَوْتَى{ وبــ }مَنْ فِي الْقُبُورِ{ الكفار شبهوا بالموتى وهم أحياء والمعنى من هم في حال الموتى ]أو في حال[ من سكن القبر. وعلى هذا لا يبقى في الآية دليل على ما نفته عائشة رضي الله تعالى عنها والله تعالى أعلم ". انتهى ما قاله الحافظ ابن حجر بلفظه(82).
وقال أيضا في "شرح البخاري" في "باب ما جاء في عذاب القبر"(83) من كلام طويل

ما نصه:"وقال ابن التين: لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية لأن الموتى لا يسمعون بلا شك لكن إذا أراد الله تعالى إسماع ما ليس من شانه السماع لم يمتنع كقوله تعالى:}إِنَّا عَرَضْنَا

الْأَمَانَة {الآية وقوله تعالى:}فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً{ الآية وسيأتي في"المغازي" قول قتادة: إن الله تعالى أحياهم حتى سمعوا كلام نبيه عليه الصلاة والسلام توبيخا ونقمة. انتهى. وقد أخذ ابن جرير(84) وجماعة من الكرامية(85) من هذه القصة أن السؤال في القبر يقع على البدن فقط وأن الله تعالى يخلق فيه إدراكا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم وذهب ابن حزم وابن هبيرة (86) إلى أن السؤال يقع على الروح فقط من غير عود إلى الجسد وخالفهم الجمهور فقال:تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث(87).

إلى أن قال ابن حجر:"إن المصنف (يعني البخاري) أشار إلى طريق من طرق الجمع بين حديثي ابن عمر وعائشة بحمل حديث ابن عمر على أن مخاطبة أهل القليب وقعت وقت المسالة(88) وحينئذ كانت الروح قد أعيدت إلى الجسد وقد تبين من الأحاديث الأخرى

أن الكافر المسؤول يعذب وأما إنكار عائشة فمحمول على غير وقت المسألة فيتفق الخبران" انتهى بلفظه.
وقال الشيخ عبد الرؤوف المناوي الشافعي في "شرحه الكبير للجامع الصغير"(89) في الكلام على قوله عليه الصلاة والسلام:p إن الميت إذا دفن يسمع خفق نعالهم إذا ولوا منصرفين i (90) ما نصه:
"وعورض بقوله تعالى:}وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ{ وأجيب بأن السماع في حديثنا مخصوص بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال". انتهى بلفظه.
وفي كتاب "المفاتيح في حل المصابيح" لشرف الدين الحسين بن محمد(91):
(قوله عليه الصلاة والسلام:p إنه ليسمع قرع نعالهم i أي لو كان حيا فإن جسده قبل أن يأتيه الملك ويقعده حيث لا يحس بشيء. وقوله: (فيقعدان) الأصل فيه أن يحمل على الحقيقة على حسب ما يقتضيه الظاهر ويحتمل أن يراد بالإقعاد: التنبيه لما يسأل عنه والإيقاف عما هو عليه بإعادة الروح إليه) انتهى.

ومما يؤيد مذهب الحنفية والموافقين لهم بعدم السماع أن الميت لو كان يسمع مطلقا لما ورد أن الروح ترجع إليه وقت المسألة في القبر ثم تذهب فافهم.
والعجب من بعض من لا فهم له ممن ينتسب إلى مذهب الإمام أبي حنيفة يشيع عند العوام أن السماع مجمع عليه. وأنه أيضا مذهب ذلك الإمام الأعظم وأصحابه ممن تأخر وتقدم بزعم أنه عليه الرحمة قال:"إذا صح الحديث فهو مذهبي"(92) وأن الحديث في سماعهم قد صح

ولم يعلم أن الحنفية قد تمسكوا كعائشة وغيرها بالآيتين وأولوا ما ورد بعد معرفتهم الحديثين ولعل هذا المتوهم يزعم أيضا أن النكاح بلا ولي باطل في مذهب أبي حنيفة لورود الحديث الصحيح فيه(93) وأن الصلاة بلا فاتحة الكتاب خداج لأن الحديث: الصحيح ورد أن

p لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب i (94) وأن الوضوء بلا نية غير صحيح لورود حديث

p إنما الأعمال بالنيات i (95) ونحو ذلك مما ذهب الإمام إلى خلافه مع وجود هذه الأحاديث المغايرة لمذهبه الواردة عليه ولم يعلم هذا المنتسب أن الإمام وأتباعه رأوا الأحاديث المصححة المعارضة لمذهبه في كثير من المسائل فأولوها أو حفظوا ما يعارضها

من الآيات والأحاديث أو علموا نسخها أو تخصيصها فلم يعملوا بها لهذه العوارض أو نحوها مما هو مفصل في محله من الكتب الأصولية والحديثية والفقهية ككتاب "مختلف الآثار" للإمام





الطحاوي(96) والإمام محمد بن الحسن(97) و"شرح الهداية"(98) وكتاب "العقود"(99) وغير ذلك.

وكيف يسوغ لمن شم رائحة العلم وأدرك شيئا من لوامع الفهم- بعد اطلاعه على عبارات الحنفية وغيرهم التي سردناها وأجوبتهم عن الآثار التي رويناها- أن يقول ويشيع إن مذهب الحنفية -كغيرهم-سماع الموتى لقول إمامنا الأعظم "إذا صح الحديث فهو مذهبي"ويجري ذلك على عمومه ؟(100) وهل هذا إلا مكابرة على الثابت بالعيان وإخفاء لضوء الشمس الذي تجحده العينان أو خيانة في حمل علوم الدين لمآرب خبيثة يستخف بها ضعفاء المسلمين.

لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي

والله تعالى المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.



الفصل الثالث
في حياة الأنبياء عليهم السلام البرزخية وفي أن النعيم والعذاب على الروح والبدن

كما هو مذهب الجمهور من أهل السنة السنة وأن زيارة القبور أمر مشروع أيضا عند أئمتنا الحنفية (101).

فاعلم أرشدنا الله وإياك إلى الطريق الأسلم أن المشايخ الحنفية وإن قالوا بعدم سماع الأموات كلام الأحياء إلا أنهم قالوا بأن النعيم والعذاب للروح والبدن وأن الزيارة أمر مشروع ولننقل لك من كلام العلماء في ذلك سالكين إن شاء الله تعالى أقصر المسالك.
حياة الأنبياء البرزخية

أما حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:الحياة البرزخية- التي هي فوق حياة الشهداء الذين قال الله تعالى فيهم:}بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ (102) يُرْزَقُونَ{ - فأمر ثابت بالأحاديث الصحيحة قال بخاري عصره شيخ مشايخنا الشيخ علي السويدي البغدادي في كتابه

"العقد"(103):

"أخرج أبو يعلى والبيهقي وصححه(104) عن أنس رضي الله عنه أن النبي r قال:

p الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون i. وأخرج الإمام أحمد ومسلم في "صحيحه" والنسائي(105) عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي r قال:p مررت ليلة أسري بي على موسى قائما يصلي في قبره i قال المناوي(106):"أي يدعو ويثني عليه ويذكره فالمراد الصلاة اللغوية وهي الدعاء والثناء وقيل: المراد الشرعية وعليه القرطبي. ولا تدافع بين هذا وبين رؤيته إياه تلك الليلة في السماء السادسة لأن للأنبياء عليهم والسلام مسارح أو لأن أرواح الأنبياء بعد مفارقة البدن في الرفيق الأعلى ولها إشراف على البدن وتعلق به وبهذا التعلق رآه يصلي في قبره ورآه في السماء فلا يلزم كون موسى عليه السلام عرج به من قبره

]ثم رد إليه بل ذلك مقام روحه واستقرارها وقبره مقام بدنه[ (107) واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى الأجساد كما أن روح نبينا r بالرفيق الأعلى وبدنه الشريف في ضريحه المكرم يرد السلام على من يسلم عليه(108) ومن غلظ طبعه عن إدراك هذا فلينظر إلى السماء في علوها وتعلقها وتأثيرها في الأرض وحياة النبات والحيوان وإذا تأملت في هذه الكلمات علمت أن لا حاجة إلى التكلفات البعيدة التي منها أن هذا كان رؤية منام أو تمثيلا أو اخبارا عن وحي لا رؤية عين". وفي "المواهب اللدنية"(109):
"اختلف في رؤية نبينا محمد r لهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فحمل ذلك بعضهم على رؤية أرواحهم إلا عيسى عليه السلام فيحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام عاين كل واحد منهم في قبره في الأرض على الصورة التي أخبر بها من الموضع الذي ذكر أنه عاينه فيه فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة في البصر والبصيرة ما أدرك به ذلك ويشهد له رؤيته r الجنة والنار في عرض الحائط والقدرة صالحة لكليهما إلى آخر ما قال".انتهى ما في "المواهب وشرحه" وتمام البحث فيه وأن أجسام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تأكلها الأرض كما ورد بالحديث بخلاف غيرهم. وقد روى في "المواهب" عن أبي داود بلفظ
p إن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياءi (110) من خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى وكل ملكا يبلغه صلاة المصلين والمسلمين عليه(111). وورد أيضا: p ما من أحد يسلم

علي إلا رد الله علي روحي فرددت عليه i (112). فلا تغفل.
النعيم والعذاب في القبر للروح والبدن

وأما كون العذاب والنعيم للروح والبدن فأمر مسلم عند الجمهور ولا ينافي عدم السماع على قول الأئمة الحنفية ومن وافقهم فهذا النائم يرى الرؤيا فتلتذ روحه وبدنه أو تغتم روحه ويتألم ويضطرب بدنه وإذا تكلم عنده شخص وهو في تلك الحالة لا يسمع وقد وردت به الأخبار فاعتقدته ذوو الأبصار قال ابن وهبان(113) الحنفي في منظومته الشهيرة:

وحق سؤال القبر ثم عذابه وكل الذي عنه النبيون أخبروا
حساب وميزان صحائف نشرت جنان ونيران صراط ومحشر

وقال شارحها ابن الشحنة(114):
اشتمل البيتان على مسائل:
الأولى: سؤال منكر ونكير(115) وهما ملكان يدخلان القبر فيسألان العبد عن دينه ونبيه وهو مما يجب الإيمان به لأنه أمر ممكن أخبر به الصادق المعصوم r والأحاديث فيها ثابتة صحيحة أي مثل ما رواه البخاري(116) عن أنس أن رسول الله r قال:p إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ لمحمد r فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال ]له[: انظر مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعدا من الجنة فيراهما ]جميعا[ وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال: لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين i. انتهى.
الثانية: عذاب القبر للكافرين وبعض عصاة المؤمنين وتنعيم أهل الطاعة في القبر بما يعلمه الله تعالى ويريده والنصوص في ذلك صحيحة كثيرة يبلغ معناها حد التواتر قال المصنف(117): "ومن أكلته السباع والحيتان فغاية أمره أن يكون بطن ذلك قبرا له". باقتصار (118).
نعم إن بعض العلماء ذهب إلى عدم إعادة الروح إلى البدن وقت السؤال وأن السؤال للروح

فقط وكذا التعذيب أو التنعيم ومنهم أبو محمد بن حزم الظاهري الشهير فإنه قال في كتابه

"الملل والنحل"(119) من كلام طويل ما لفظه:
وأيضا فإن جسد كل إنسان لا بد له من العود إلى التراب يوما كما قال عز وجل:}مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى{ فكل من ذكرنا من مصلوب أو غريق

أو محرق أو أكيل سبع أو دابة بحر أو قتيل لم يقبر فإنه يعود رمادا أو رجيعا أو يتقطع فيعود إلى الأرض ولا بد وكل مكان استقرت فيه النفس إثر خروجها فهو لها قبر إلى يوم القيامة وأما من ظن أن الميت يحيى في قبره ]قبل[ يوم القيامة فخطأ (120) لأن الآيات التي ذكرناها تمنع من ذلك ولو كان ذلك لكان تعالى قد أماتنا ثلاثا ]وأحيانا ثلاثا[ وهذا باطل وخلاف القرآن

إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء عليهم السلام كـ (121)}الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ {و}الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ { ]ومن خصه نص[ وكذلك قوله تعالى:}اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى {فصح نص القرآن أن أرواح سائر من ذكرنا لا ترجع إلى جسده إلا إلى الأجل المسمى وهو يوم القيامة وكذا أخبر رسول الله r أنه رأى الأرواح ليلة أسري به عند سماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام أرواح أهل السعادة وعن شماله أرواح أهل الشقاوة وأخبر r يوم بدر إذ خاطب الموتى وأخبر أنهم قد وجدوا ما وعدهم به حقا قبل أن يكون لهم قبور(122) فقال له المسلمون: يا رسول الله أتخاطب أقواما قد جيفوا ؟ فقال r:p ما أنتم بأسمع لما أقول منهم i فلم ينكر r على المسلمين قولهم "قد جيفوا" وأعلمهم ]أنهم[ سامعون فصح أن ذلك لأرواحهم فقط بلا شك وأما الجسد فلا حس له ]قال الله عز وجل:} وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ{ فنفى عز وجل السمع عمن في القبور وهي الأجساد بلا شك. ولا يشك مسلم في أن الذي نفى الله عز وجل عنه السمع هو غير الذي أثبت له رسول الله r السمع فهذا هو الحق وأما ما خالف هذا فخلاف لله عز وجل ولرسوله r مكابرة للعقل وللمشاهدة[ (123) ولم يأت قط عن رسول الله r في خبر يصح أن أرواح الموتى ترد ]إلى[ أجسادهم عند المساءلة ولو صح ذلك عنه r لقلنا له فإذا لم يصح فلا يحل لأحد أن يقوله وإنما انفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح في القبور إلى الأجساد المنهال بن عمرو وحده وليس بالقوي (125) ]تركه شعبة وغيره وقال فيه المغيرة بن مقسم الضبي- وهو أحد الائمة-:"ما جازت قط للمنهال بن عمرو شهادة في الإسلام على باقة بقل"[(125) وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضا عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم عنهم لم يصح عن أحد منهم غير ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات حدثنا إسماعيل بن إسحاق البصري(126): نا عيسى بن حبيب(127):حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ عن جده محمد بن عبد الله عن سفيان ابن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت: دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يصلب فقيل له: هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها فمال ابن عمر إليها فعزاها وقال إن هذه الجثث ليست بشيء وإن الأرواح عند الله عز وجل. فقالت أسماء: وما يمنعني(128) وقد أهدي رأس زكريا(129) إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. و: نا محمد بن سعيد بن نبات: نا أحمد

بن عون الله: نا قاسم بن أصبغ: نا محمد بن عبد السلام الخشني: نا أبو موسى محمد بن المثنى الزمن: نا عبد الرحمن بن مهدي: نا سفيان الثوري عن أبي اسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قول الله عز وجل:}قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ{ ]قال[: هي التي في (البقرة):}وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{ (129). فهذا ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله تعالى عنهم ولا مخالف لهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم تقطع أسماء وابن عمر على أن الأرواح باقية عند الله تعالى وأن الجثث ليست بشيء ويقطع ابن مسعود بأن الحياة مرتان والوفاة كذلك وهو قولنا وبالله تعالى التوفيق. وقد صح عن النبي r انه رأى موسى عليه السلام تلك الليلة في السماء السادسة أو السابعة(130) وبلا شك أنه رأى روحه وأما الجسد فموارى في التراب بلا شك فعلى هذا إن كل موضع روح يسمى قبرا له فتعذب الأرواح حينئذ وتسأل حيث هي. وبالله تعالى التوفيق". انتهى كلام ابن حزم بحروفه. ولا تنس توقف الإمام الأعظم في ذلك.
وقد رده العلامة ابن القيم في "كتاب الروح"(131) بعد أن نقل بعضه بقوله:
"قلت ما ذكره أبو محمد فيه حق وباطل أما قوله:"من ظن أن الميت يحيا في قبره فخطأ" فهذا فيه إجمال إن أراد به الحياة المعهودة في الدنيا التي يقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه ويحتاج معها ]إلى[ الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ كما قال والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص وإن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ".
إلى أن قال ابن القيم(132):"إن الروح بالبدن لها خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام:
أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنينا.
الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
الثالث: تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
الرابع: تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة.
الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا" انتهى. وأطال في البحث كما هي عادته فمن أراده فليرجع إليه.
وتبين أيضا مما نقلناه عن أبي محمد بن حزم أنه موافق للحنفية أيضا في مسألة عدم سماع الموتى وإن خالفهم في غيره وهو من أجل علماء مذهب داود الظاهري المجتهد المشهور.
تتمه:
قال العلامة أبو الحسن علي سيف الدين الآمدي الأشعري(133) في كتابه "أبكار الأفكار" ما عبارته:
"الفصل الثالث في عذاب القبر ومسألة منكر ونكير:
وقد اتفق سلف الأمة قبل ظهور الخلاف وأكثرهم بعد ظهوره على إ ثبات إحياء الموتى في قبورهم ومساءلة الملكين لهم وتسمية أحدهما منكرا والآخر نكيرا وعلى إثبات عذاب القبر للمجرمين والكافرين وذهب أبو الهذيل(134) وبشر بن المعتمر(135) إلى أن من ليس بمؤمن فإنه

لا يسأل ويعذب فيما بعد النفختين أيضا وذهب الصالحي(136) من المعتزلة وابن جرير الطبري وطائفة من الكرامية إلى تجويز ذلك(137) على الموتى في قبورهم وذهب بعض المتكلمين إلى أن الآلام تجتمع في أجساد الموتى وتتضاعف من غير حس بها فإذا حشروا أحسوا بها دفعة واحدة وذهب ضرار بن عمرو(138) وبشر المريسي(139) وأكثر المتأخرين من المعتزلة إلى إنكار ذلك كله وأنكر الجبائي(140) وابنه والبلخي(141) تسمية الملكين منكرا ونكيرا مع الاعتراف بهما(142) وإنما المنكر ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا سئل والنكير تقريع الملكين له.
والدليل على إحياء الموتى في قبورهم قبل الحشر قبل الحشر قوله تعالى:}رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ{ والمراد بالإماتتين ما بين الموتة التي قبل مزار القبور والموتة التي بعد مساءلة منكر ونكير والمراد بالحياتين:الحياة الأولى والحياة لأجل المساءلة على ما قاله المفسرون(143).
فإن قيل: لا نسلم أن المراد بالإماتتين والحياتين ما ذكرتموه وما ذكرتموه عن المفسرين فهو معارض بما يناقضه من قول غيرهم من المفسرين أيضا فإنه قد قيل: إن المراد بالإماتتين الموتة الأولى في أطوار النطفة قبل نفخ الروح فيها والثانية: التي قبل مزار القبور والمراد بالحياتين:الحياة التي قبل مزار القبور والمراد بالحياتين: الحياة التي قبل مزار القبور والحياة لأجل الحشر وليس أحد القولين أولى من الآخر بل هذا القول أولى لأنه لو كان كذلك فيكون على وفق المفهوم من قوله تعالى:}وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ{ حيث يدل بمفهومه على نفي حياة ثالثة وما ذكرتموه يلزم منه أن يكون الإحياء ثلاث مرات:الإحياء الأول قبل مزار القبور والإحياء الثاني للمسألة والإحياء ]الثالث ] للحشر وهو خلاف المفهوم(144).
قلنا بل ما ذكرناه أولى لوجهين:
الأول: أنه الشايع المستفيض بين أرباب التفسير وما ذكرتموه نقول شذوذ لا يؤبه له.
الثاني: أنه حمل الإماتة على حالة أطوار النطفة مخالف للظاهر فإن الإماتة لا تطلق إلا بعد سابقة الحياة".
ثم إنه أطال(145) في الأجوبة إلى أن قال في الكلام على عذاب القبر وأدلة من يقول بنفيه:
"ومنها قوله تعالى حكاية عن الكفار إذا حشروا:}يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا {فإنه دليل على أنهم لم يكونوا معذبين قبل ذلك. ومنها قوله تعالى:}لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى {وهي خلاف قول من قال بأن الميت يحيى للمسائلة ثم يموت ". إلى أن قال:
"والجواب: أما ما ذكروه من الشبهة الأولى فقد اختلف المتكلمون في جوابها فمنهم من قال بالتزام الثواب والعقاب في حق الموتى من غير حياة كما حكاه عن الصالحي وابن جرير الطبري وبعض الكرامية وأما أصحابنا(146) فقد اختلفوا فمنهم من قال ترد الحياة إلى بعض أجزاء البدن وأخصها منها بذلك والمسائلة والعذاب. وقال القاضي أبو بكر: لا يبعد أن ترد الحياة وان كنا نحن لا نشعر بها كما قال (صاحب السكة) "(147).انتهى.
و أطال في الأجوبة فإن أردته فارجع إليه.
وتبين أيضا منه موافقة ابن جرير الطبري المجتهد وغيره للحنفية في عدم السماع لأنه لما نفى الحياة فمن الأولى أن ينفي السماع أيضا كما لا يخفى على كل ذي فهم غير متعصب فلا تغفل.

] زيارة القبور[

وأما مشروعية زيارة المقابر فاسمع ما قالته الأئمة الحنفية في كتبهم المرضية قال الشرنبلالي(148) في"مراقي الفلاح":"(فصل في زيارة القبور.ندب زيارتها) من غير أن يطأ القبور (للرجال والنساء وقيل تحرم على النساء) والأصح أن الرخصة ثابتة للرجال والنساء فتندب لهن أيضا(على الأصح) (149).

والسنة زيارتها قائما والدعاء عندها(150) قائما كما كان يفعل رسول الله r في الخروج إلى البقيع ويقول السلام ]عليكم [ دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لي ولكم العافية" (151).
(ويستحب) للزائر (قراءة) سورة (يس) لما ورد" انتهى(152).





وقال محشيه الطحطاوي(153):"(قوله " للرجال " ويقصدون بزيارتها وجه الله تعالى وإصلاح القلب(154) ونفع الميت بما يتلى عنده ]من القرآن ولا يمس القبر ولا يقبله(155) فإنه من عادة[(156) أهل الكتاب ولم يعهد الاستلام إلا للحجر الأسود والركن اليماني خاصة. وتمامه في الحلبي".
وقال الغزالي في "الإحياء"(157):"إن ذلك من عادة النصارى قوله:(وقيل: تحرم على النساء) وسئل القاضي عن جواز خروج النساء إلى المقابر؟ فقال: لا تسأل عن الجواز والفساد في مثل هذا وإنما تسأل عن مقدار ما يلحقها من اللعن فيه" وقال بعد أسطر:
"إن مسألة القراءة على القبر ذات خلاف قال الإمام(158): تكره لأن أهلها جيفة ولم يصح فيها شيء عنده عنه r (159).وقال محمد: تستحب". انتهى المقصود منه بلفظه.
قلت: وتعبير الإمام عن الميت ب (الجيفة) مأخوذ مما رواه أبو داود مرفوعا عنه r:

"لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين طهراني أهله". فافهم.

وقال أيضا:"فللإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره (160) عند أهل السنة والجماعة صلاة كان أو صوما أو حجا أو صدقة أو قراءة للقرآن أو الأذكار أو غير ذلك من أنواع البر ويصل ذلك إلى الميت وينفعه. قال الزيعلي(161) في "(باب الحج عن الغير)". انتهى(162).
ومثله من أبحاث الزيارة في "رد المحتار" وغيره من كتب المذهب. وكذا مسائل القراءة ونحوها المسطورة في كتب سائر المذاهب تركناها خشية التطويل إذ كان المقصود من تحرير هذه الرسالة بيان قول الأئمة الحنفية أن الميت لا يسمع عندهم وعند جملة من علماء المذاهب الأخر فأثبتنا ولله الحمد صحة نقلنا عنهم وما تلقيناه منهم.
فإن قيل: إذا كان مذهب الحنفية وكثير من العلماء المحققين على عدم السماع فما فائدة السلام على الأموات وكيف صحة(163) مخاطبتهم عند السلام ؟
قلت: لم أجد فيما بين يدي الآن من كتبهم جوابهم عن ذلك ولا بد أن تكون لهم أجوبة عديدة فيما هنالك والذي يخطر في الذهن ويتبادر إلى الخاطر والفهم أنهم لعلهم أجابوا بأن ذلك أمر تعبدي وبأنا نسلم سرا في آخر صلاتنا إذا كنا مقتدين وننوي بسلامنا الحفظة

والإمام وسائر المقتدين مع أن هؤلاء القوم لا يسمعونه لعدم الجهر به فكذا ما نحن

فيه(164).

على أن السلام هو الرحمة للموتى وننزلهم منزلة المخاطبين السامعين وذلك شائع في العربية كما لا يخفى على العارفين فهذه العرب تسلم على الديار وتخاطبها على بعد المزار(165).
وبعد أن حررت هذه الكلمات رأيت في "شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك" في

"فصل جامع للوضوء"(166) في الكلام على حديث أبي هريرة أن رسول الله r خرج إلى المقبرة فقال:p السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون i (167) ما لفظه:
"قال الباجي(168) وعياض(169):يحتمل أنهم أحيوا له حتى سمعوا كلامه كأهل القليب ويحتمل أن يسلم عليهم مع كونهم أمواتا لامتثال أمته ذلك بعده. قال الباجي(170): وهو الأظهر "(171).
]ورأيت أيضا في "حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح" في "باب الصلاة على الجنائز"(172) ما عبارته:"قوله:(وينوي بالتسليمتين الميت مع القوم) وجزم في "الظهيرية" بأنه لا ينوي الميت ومثله لقاضي خان. وفي "الجوهرة":قال في "البحر":وهو الظاهر لأن الميت لا يخاطب بالسلام لأنه ليس أهلا للخطاب. قال بعض الفضلاء:وفيه نظر. لأنه ورد أنه r كان يسلم على ]أهل[ القبور انتهى. على أن المقصود منه الدعاء لا الخطاب" انتهى بلفظه.
وكذلك في "حاشية ابن عابدين" على "الدر المختار"(173).

وقال في "البحر"(174) ما نصه:
"وفي "الظهيرية": ولا ينوي الإمام الميت في تسليمتي الجنازة بل ينوي من على يمينه في التسليمة الأولى ومن على يساره في التسليمة الثانية. انتهى. وهو الظاهر لأن الميت لا يخاطب بالسلام ]عليه[ حتى ينوى به إذ ليس أهلا له". انتهى ما في "البحر"؟ بحروفه.
فتبين لك من كلام الفقهاء المشهورين أن الميت لا ينوي بالسلام ولا يخاطب وأن القصد بسلامه الدعاء. وهذا كله مطابق لما قدمناه. والحمد لله رب العالمين.
إذا علمت ما مضى من النقول الصحيحة وأقوال أهل المذهب الحنفي وغيرهم الرجيحة تبين لك ما في الرسالة المسماة ب "المحنة الوهبية" من الخبط والخلط والكذب وسوء الفهم والتلبيس وإطالة اللسان على القائلين بعدم السماع بما لفظ بعضه:"فيلزم من قوله هذا أن الذي ينكر سماع الكفار يكفر لأن جاحد المعلوم من الدين بالضرورة يكفر". انتهى.
فنعوذ بالله من الخذلان وتكفير المسلمين والجدال الباطل في الدين[(175).
فافهم ما قلناه وكن من الشاكرين.














الخاتمة

- ونسأل الله تعالى حسنها إذا بلغت الروح المنتهى - في بيان الخلاف في مستقر الأرواح بعد مفارقتها البدن إلى يوم القيامة والبعث ]ونتبعها بمسائل[.

قال الحافط ابن القيم في "كتاب الروح"(176):"هذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس واختلفوا فيها وهي إنما تتلقى من السمع فقط واختلف في ذلك.
فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله تعالى في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا

لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين ويلقاهم ربهم بالعفو عنهم وهذا مذهب أبي هريرة

وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما (177).
]وقالت طائفة: هم بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها[ .
وقالت: طائفة الأرواح على أفنية القبور.
وقال الإمام مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت.
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله:أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة(178)

وقال أبو عبد الله بن منده: قال طائفة من الصحابة والتابعين: إن أرواح المؤمنين

بـ (الجابية)(179) وأرواح الكفار بـ (برهوت):بئر بـ (حضرموت).
وقال صفوان بن عمرو(180): سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان:هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟ فقال: إن الأرض التي يقول الله تعالى:}وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ {هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث.

وقال: هي الأرض التي يورثها الله المؤمنين في الدنيا(181).
وقال كعب: أرواح المؤمنين(182) في عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس .
وقالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر (زمزم)(183) وأرواح الكفار ببئر (برهوت).
وقال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض(184) تذهب حيث شاءت وأرواح الكفار في سجين. وفي لفظ عنه:نسمة المؤمن (أي روحه) تذهب في الأرض حيث شاءت(185).
وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار عن شماله(186).
وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها(187).
وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة وأرواح عامة المؤمنين على أفنية

القبور(188) وروى عبد الله ابن أبي يزيد أنه سمع [ ابن ] عباس يقول: أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في ثمر الجنة(189) .

وعن عبد الله ابن عمر: أرواح الشهداء في طير كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر

الجنة (190).وفي "مسلم":"في أجواف طير خضر" (191) وقال قتادة: بلغنا أن أرواح الشهداء في صور طير بيض تأكل من ثمار الجنة. وقال ابن المبارك: عن ابن جريح فيما قرىء عليه: عن مجاهد: ليس هي في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها(192). وذكر معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد(193) أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين ؟ فقال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة تأتي ربها كل يوم تسلم عليه. وعن مجاهد: الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك.

(قال ابن القيم)(194): ولا تنافي بين هذه الأقوال الشرعية والأحاديث النبوية لأن الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت فمنها في أعلى عليين وهي أرواح الأنبياء عليهم السلام وهم متفاوتون في منازلهم ومنها في حواصل طير ومنها من يكون محبوسا على باب الجنة ومنها من يكون مقره بباب الجنة ومنها من يكون محبوسا في الأرض لم تعل روحه إلى الملأ الأعلى فإنها كانت روحا سفلية ومنها أرواح تكون في تنور الزناة وأرواح تكون في نهر الدم تسبح. وليس للأرواح شقيها وسعيدها مستقر واحد بل روح في أعلى عليين وروح أرضية

سفلية لا تصعد عن الأرض. وأنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب وكان لك فضل

اعتناء عرفت حجة ذلك. ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا". إلى آخر ما قال.
والمفهوم منه أن مستقرها يتفاوت بتفاوت حال صاحبها إيمانا وكفرا وصلاحا وفسقا وأنت تعلم اختلاف العلماء فيما قال وما رواه الإمام مالك في"الموطأ":p إنما نسمة المؤمن(195) طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه i(196). والله تعالى أعلم.
وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض. وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه فتعدم بموت البدن كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته وهذا قول مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين(197) والمقصود أن عند هذا الفرقة المبطلة مستقر الأرواح بعد الموت العدم المحض.
وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبها في حال حياتها فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح فتصير النفس السبعية إلى أبدان السباع والكلبية إلى أبدان الكلاب والبهيمية إلى أبدان البهائم والدنية السفلية إلى أبدان الحشرات. وهذا قول التناسخية منكري المعاد وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلهم.
قلت: وإن ما تقوله اليهود الآن قريب من هذا فإن عندهم أن الميت تنتقل روحه إلى غيره إلى ثلاث مرات أي تنتقل من شخص إلى آخر ثم إذا مات تنتقل إلى آخر ثم إلى ثالث ثم إلى ما شاء الله تعالى من الأماكن على ما ذكر لي أحد علمائهم.
مسائل:
الأولى: هل أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا ؟
وجوابها على ما في "كتاب الروح"(198):
"إن الأرواح قسمان:أرواح معذبة وأرواح منعمة فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها.
الثانية: هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات ؟

وجوابها: نعم قال الله تعالى:}اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا

فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {روى أبو عبد الله بن منده بسنده (199) إلى ابن عباس في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله تعالى أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
والقول الثاني في الآية: أن الممسك والمرسل في الآية كلاهما توفي وفاة النوم فمن استكملت أجلها أمسكها عنده فلا يردها إلى جسدها ومن لم تستكمل أجلها ردها إلى جسدها لتستكمله(200).
الثالثة: هل الروح تموت أم الموت للبدن وحده ؟

وجوابها: أن الناس اختلفوا في ذلك فقالت طائفة:تموت وتذوق الموت لأنها نفس والنفس ذائقة الموت. قالوا وقد دلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا الله وحده قال الله تعالى:}كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {وقال تعالى:}كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ {قالوا:وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت(201).
وقال آخرون: لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء وإنما تموت الأبدان. قالوا:وقد دل على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله تعالى في أجسادها ولو ماتت الأرواح لا نقطع عنها النعيم والعذاب وقال الله تعالى:}وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وقد ذاقت الموت. وقد نظم أحمد بن الحسين الكندي(202) ذلك في قوله:

تنازع (203) الناس حتى لا اتفاق لهم إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة وقيل تشرك جسم المرء في العطب

الرابعة: اختلف الناس في حقيقة الروح من سائر الطوائف وكذا اختلفوا في أنها هل هي

النفس أو غيرها؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم مساكن

له مودع فيه أو جوهر مجرد وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات أم [ هي ] ثلاث أنفس؟ وهل الروح هي الحياة أو غيرها؟ وهل هي مخلوقة قبل الأجساد أم بعدها؟
أما مسألة تقدم خلق الأرواح على الأجساد وتأخرها عنها فللعلماء فيها قولان معروفان وممن ذهب إلى من تقدم خلقها محمد بن نصر المروزي وأبو محمد بن حزم وحكاه

إجماعا؟(204) و[ من ] أدلتهم(205) قوله تعالى في سورة الأعراف:}وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ {.قالوا: وهذا الاستنطاق والإشهاد إنما كان لأرواحنا ولم تكن الأبدان حينئذ موجودة وقوله r:"إن الله خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" (206).

وأجاب عن ذلك من يقول بتأخر خلق الروح عن البدن بأجوبة مطولة والعلامة

البيضاوي(207) حمل الآية على التمثيل في"تفسيره" (208) وفي "شرحه للمصابيح" على تأخر خلقها بأدلة مفصلة منها قوله عليه الصلاة والسلام:p إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح i(209). واستدلوا أيضا بغير هذا مما هو مفصل في كتاب الروحين "روح المعاني" لوالدنا المبرور (210) [نور الله تعالى روضته] (211) و"الروح" (212) لابن القيم فراجعهما إن شئت.
أما [الكلام على] بقية المسائل فقد قال ابن القيم(213):"والذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدله العقل والفطرة أنه جسم حادث مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي هذا الجسم اللطيف متشابكا لهذه(214) الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإدارة وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول الآثار فارق الروح البدن وانفصل بأمر الله تعالى إلى عالم الأرواح قال الله تعالى:}يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي {".
وإن أردت استقصاء أبحاثها فعليك بكتاب"الروح" فإنه يهب لك روحا وينيلك فيما ترجوا نجحا وإن شئت أن ترد قالا وقيلا فتذكر قوله تعالى:}وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً {.
[هذا] وأصخ بفكرك نحو ما قلته وتدبر جميع ما زبرته وتأمله تأمل طالب للحق غير كاتم للقول الصدق ولا تنظر بعين الحاسد فتلفى لضوء الشمس جاحد(215) إذ لم يبق والفضل لله سبحانه مجال لإنكار المكابرين ولا حجة بعد هذا للمعاندين وغير المطلعين.
فلنكتف بهذا المقدار لئلا يطول الكتاب على ذوي الأنظار ويكفي لكل ذي رأي سديد من القلادة ما أحاط بالجيد ولا سيما وقد تكفلت بتفصيل هذه المسائل كتب العلماء المتقدمين والأئمة المحققين الأفاضل والله سبحانه الهادي إلى صوب الصواب والمسمع للجماد كلام الأحياء إذا شاء كما أسمع سارية كلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب(216).
والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على جميع الأنبياء والمرسلين وعلى أشرفهم نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين الطيبين الطاهرين.
قلت: جاء في آخر الأصل المطبوع عنه ما نصه:"وقد كملت هذه الرسالة تأليف شيخنا العلامة الحبر البحر الفهامة فريد عصره ووحيد مصره مؤيد سنة سيد المرسلين وقامع المبتدعين خاتمة المحققين مولانا السيد نعمان خير الدين أفندي آلوسي زاده رئيس المدرسين ببغداد حماه الله تعالى من كيد الحساد وأدام به نفع العباد آمين.
في 8 ربيع الثاني سنة 1329".

وهو يشعر بأنه منقول عن أصل نسخ في حياة المؤلف رحمه الله تعالى.

مباحث الكتاب ومسائله

مقدمة الطبعة الثالثة


1

مقدمة محقق الكتاب، وقصة الحصول على صورة منه.


12

البدء بقراءتها في الطائرة ووصف المصورة والمنهج في التحقيق.


13

الحصول على مصورتين لنسختين أخريين منه، ووصفهما.


15

بيان علاقة موضوع الرسالة بالتوحيد وموقف الأحزاب الإسلامية من الدعوة إليه بما ينافيه، وأن الاستعانة بالموتى سببه الاعتقاد بأن الموتى يسمعون.


17

ضلالة الاعتقاد بالمتصرفين والمدَّرَّكين من الأولياء وكلام السيد رشيد رضا في ذلك.


18-19

كلام العلامة صديق حسن خان في جهل المستغيثين بغير الله وعكوفهم على القبور، وسكوت العلماء عنهم!


19

بيان أن المشركين كانوا يدعون الله في الشدائد، وكثير من المسلمين يدعون الميتين!! وذكر حكاية طري

Tidak ada komentar: